…
خان الخليلي
نجيب محفوظ
رواية خان الخليلي الصادرة في العام 1945 للأديب المصري العالمي الراحل نجيب محفوظ, تُمَثِلُ تلك المرحلة التي اتجه فيها محفوظ لمرحلة الكتابة الواقعية, بعد كتابته لعددٍ من الروايات ذات الطابع التاريخي المُستَمد من التاريخ المصري القديم. تصور هذه المرحلة الواقعية طابع الحياة في المجتمع المصري في فترة ما قبل يوليو ـ تموز 1952 , وتشغلها مكانيًا القاهرة الفاطمية. المرحلة التي بدأت برواية خان الخليلي لتليها: القاهرة الجديدة, زقاق المَدَّق, السراب, بداية ونهاية, ثم توجتها أخيرًا الثلاثية
( بين القصرين, قصر الشوق, السُكَرِيَّة).
بيد أن القارئ الفطن حتمًا يلاحظ في روايات المرحلة الواقعية الصراع المحتدم بجلاءٍ بين الماضي والحاضر, القديم والجديد. بين نسقين مختلفين من القِيَم, بين من ينعمون بالشعور بالأمان في أحضان الثقافة التقليدية ومن يتطلعون لبريق الثقافة والتمدن الغربي, وما تضطرم به الأحداث من حالة تحفز كل معسكر حيال الآخر.
تغطي رواية خان الخليلي فترة عام واحد من سپتمبر 1941 حتى أغسطس 1942, إبان ذروة القتال والمعارك في الحرب العالمية الثانية وزحف جيوش الألمان النازية عبر شمال إفريقيا.
تبدأ الأحداث وسط معمعة الحرب بانتقال أسرة أحمد عاكف من سكنهم في حي السكاكيني إلي شارع خان الخليلي بحي الحسين العريق, بعد أن فاض بهم الكيل بسبب القصف المتكرر من غارات الطائرات الألمانية. يُفَضِلون الانتقال إلى حي الحسين لاعتقادهم أن الألمان لن يجرؤوا على قصف تلك المنطقة فهم في رحاب الحسين وحِماه, وخاصةً أن الدعاية النازية كانت تروج لاحترامها للمُقَدَسات الإسلامية.
“ـ أنت لا تدري عن الحسين شيئًا. فها هنا ألذ طعمية وأشهى فول مدمس وأطعم كباب وأحسن نيفة وأمتع كوارع وأنفس لحمة راس. هنا الشاي المنعدم النظير والقهوة النادرة المثال. هنا نهارٌ دائمٌ وحياةٌ متصلةٌ ليلًا ونهارًا. هنا ابن بنت رسول الله وكفى به جارًا ومجبرًا ! ”
أحمد عاكف يُجَسِدُ حالة البطل السيئ بجدارة. فهو كارهٌ لرتابة حياته, ناقمٌ على حظه العاثر, حاقدٌ على كل المتفوقين والموسرين. ثقته في نفسه معدومة, ويدور في ذهنه حوار داخلي عميق يعكس هذا الشعور من الرثاء للذات والغيظ من عناد الحياة وتحالف الظروف والأقدار ضده. إذ اضطرته حادثة إحالة أبيه للتقاعد ألا يستكمل تعليمه, وأن يكون هو عائل الأسرة ومن يتولى الإنفاق على شقيقه الأصغر رشدي ريثما يُتِّم تعليمه. وينتهي الحال بالأستاذ أحمد عاكف موظفًا منسيًا بوزارة الأشغال ويصل لسن الأربعين دون زواج. تسيطر عليه حالة الشعور بالاضطهاد لظنه أنه عبقري لا يجد التقدير لمواهبه ونبوغه. يصرف سنينًا طوالًا من وقته في قراءة الكتب التراثية ويظن نفسه مثقفًا مطلعًا وأديبًا موهوبًا. صورةُ نمطيةُ لمن يحسبون أنفسهم مثقفين فقط لمجرد قرائتهم بضعة كتب متفرقة لا يعرفون غيرها. تنهش نفسه غيرةٌ قاسيةٌ تجاه أصحاب الوظائف العُليا ولا يتورع عن إخفاء حقده عليهم بإدعاء أن منهم من زاملوه في الدراسة وكانوا من الخائبين لولا أن لهم صلات القرابة والنفوذ التي يسرت وصولهم لأعلى الوظائف. يحاول دراسة القانون ولكنه يفشل في اجتياز الامتحانات فيعزو ذلك لظروف مرضية وصحية. يشرع في كتابة مقالات يُرسلها لبعض المجلات التي تتجاهلها ولا تنشرها, لتلتهم نفسه أعراض المرارة والضيق ضد من لا يُقَدِرون قيمة موهبته الأدبية العظيمة.
“فلما أُجبِرَ على الانقطاع عن الدراسة أصابت آماله طعنة قتَّالة دامية. ترنح من هولها واجتاحته ثورةٌ عنيفةٌ جنونيةٌ حَطَّمَت كيانه فامتلأت نفسه مرارةً وكمدًا, ووقر في أعماقه أنه شهيدٌ مضطهدٌ وعبقريةٌ مقبورةٌ, وضحيةٌ مظلومةٌ للحظ العاثر, وما انفك بعد ذلك يرثي عبقريته الشهيدة ويحتفل بذكراها لمناسبةٍ ولغير مناسبةٍ. يشكو حظه العاثر ويعدد آثامه. حتى انقلبت شكواه فصارت هوسًا مرضيًا.”
“وانكسر عن محاولاته مُحَطمَ النفس مطعون الفؤاد. لقد تآمر عليه سوء الحظ ـ عدوه القديم ـ وخبث طوايا النفوس ولؤم الطباع. فلم يساوره شكٌ في قيمة مقالاته الأدبية بل ظنها خيرًا مما بدأ به المنفلوطي نفسه وما يتيه به كثير من المعاصرين ولكنه سوء النفس و فساد الطوية. وتبددت الأحلام جميعًا! ألا ما أضيق العيش وما أظلمه ! ”
” هكذا تلوثت عواطفه بتمردٍ ثائر وسخطٍ خبيثٍ وكبرياء حنقٍ, واعتدادٍ كاذبٍ بمواهبه, مما جعل حياته عذابًا متصلًا وشقاءً مقيمًا.”
لكن الحياة تتغير تدريجيًا بعد الانتقال إلى خان الخليلي. يخرج قليلًا من عزلته وسط الكتب التراثية ويتعرف علي مجموعة الأصدقاء من جيرانه وفي مقدمتهم المعلم نونو صاحب شعار “ملعون أبو الدنيا”, وبقية رواد مقهى الزهرة على اختلاف ميولهم وإن اتفقوا على جلسات الأُنس والمزاج. يشعر أن بإمكانه إظهار ثقافته وتميزه لظنه أنهم بسطاء من محدودي التفكير ولكنه يصطدم بشخصية أحمد راشد المحامي المثقف العصري المُطَلِع على كتابات ماركس ونيتشه ودارون وفرويد, المؤمن بالاشتراكية والمادية وأن المجتمع الحديث لا يقوم إلا على الإيمان بقيمة العلم, وأن الروحانية والتدين ليس لهما من مكان فيه. يشعر أحمد عاكف بالتضاؤل أمام أحمد راشد. فها هو أمام أسماء لمفكرين لا يعرفهم وكتابات لم يطالعها. فيدخل في مناقشات يتعرض فيها لأصالة ثقافته القديمة التي يمثلها حي الحسين في مقارعة مع مادية أحمد راشد التي ترفض وتزدري بكل ما هو قديم.
” لم يخامره شك قط في تفوقه على هؤلاء الناس من جميع الاعتبارات والوجوه. فهو من أهل السكاكيني وهم من أبناء الدرَّاسة أو الجمَّالية. وهو المفكر الكامل العقل وهم لا شيء من هذا جميعه. بل خال أن وجوده بينهم تعطفٌ جميلٌ وتواضعٌ محبوبٌ. بيد أنه تساءل متحيرًا تُرى كيف السبيل إلى تفهيم هذه الجماعة حقيقة قدره وإطلاعِهم على مزاياه العقلية والثقافية؟ كيف يقنعهم بعظمته ويدعوهم إلى احترامه؟”
“ـ ومن رُسُلُ العصر الحديث؟
ـ أضربُ مثلًا بهذين العبقريين: فرويد وكارل ماركس.
وشعر بيدٍ تضغط على عنقه فتكتم أنفاسه. بل شعر بجرحٍ عميقٍ في كرامته لأنه لم يسمع قبل الآن بهذين الاسمين! وأضمر لصاحبه غضبًا جنونيًا, ولكن لم يسعه إظهار جهله فهَزَّ رأسه هزة العالم العارف وتساءل: ـ أتراهما يضارعان العباقرة الأولين؟ ”
” ولما خلا إلى نفسه في حجرته تناسى حديث نونو وظرفه ولاحت لعينيه صورة أحمد راشد بكآبتها وعنف حركاتها فاستثارت حنقه وغروره ومقته, وتساءل محزونًا كيف غابت عنه دنيا المعرفة الحديثة؟ وكيف يستكمل ما فاته منها؟ ومتى يحاضر في فرويد وماركس كما يستطيع أن يحاضر في إخوان الصفا وابن ميمون؟”
يقدم لنا نجيب محفوظ في حديث الأصدقاء على مقهى الزهرة ما كانت تموج به الحياة السياسية في مصر والعالم في غمار سنوات الحرب العالمية الثانية, فهناك من يتعاطفون مع الدعاية النازية نكايةً في الاحتلال البريطاني وفساد السياسة, أو من يمجدون النموذج الروسي, وإن كانت كراهية البريطانيين هي الغالبة ولا رغبة تعلو على التخلص من احتلالهم.
ولعل أبرع ما قدمه نجيب محفوظ في خان الخليلي هو أجواء الاحتفال بشهر رمضان المبارك في تلك الأيام, فهو يصف لنا إنهاك الصائمين, وما تُعِدُهُ ربات البيوت من مختلف أصناف الطعام التي تثير شهية القارئ من براعة الوصف. وسط تلك المنطقة التاريخية العامرة بالمساجد والأضرحة والأسبلة وحوانيت أصحاب الحرف اليدوية.
ولكن للأسف يخيب ظن الأسرة, فالهروب من السكاكيني إلى خان الخليلي لم يوفر لهم الأمان المنشود, فالغارات لم تتوقف, والاختباء في المخابئ ظل على عهده الوثيق معهم.
ووسط طبول الحرب يتفتح قلب أحمد عاكف للحب. إذ أُعجِبَ بجارتهم نوال. فهو لم يعرف قبلًا إلا بعض القصص الفاشلة. على مثال جارتهم اليهودية العابثة, أو صحبة البغايا, فتتشوه صورة المرأة في ذهنه مع تقدمه في العمر دون حياة مستقرة. وها هي نوال التي أعجبته ورَقَّ لها قلبه تكاد تكون في سن ابنته لو كان قد تزوج منذ عشرين عامًا, وليس له الجاه أو المكانة أو الوسامة لترضى به.
” لا صحة ولا أسرة ولا مال. في البدء قصم ظهرك عثار أبيك وبدد آمالك حدبك على شقيقك, ثم أعقم مواهبك العقلية ببيئتك الجاهلة؟ ماذا يتبقى لكَ من أحلام دنياك؟ ذهب الشباب فلم يترك حتى ذكرى جميلة تتفيأ ظلها في هجيرة العمر! وها هي الكهولة تطعن بك فيما وراء الشيخوخة فكيف تحتمل هذه الحياة العقيمة؟”
ومع نقل شقيقه رشدي من أسيوط إلى القاهرة تسوء الأمور. فيكتشف أن رشدي يغازل نوال بل ويتقدم لخطبتها. لتعمل في نفسه مشاعر الغيرة والمرارة تجاه شقيقه, الذي أفنى عمره من أجل تعليمه ولم يَضِن عليه بشيء فإذا به يسلبه من أحبها قلبه.
ورشدي مثال للشاب المستهتر المقامر العابث اللعوب الذي يقتنص من الحياة لذَّاتها ومتعها دون وازع أو رادع. وتحل الكارثة الكبرى على العائلة مع اكتشاف إصابة رشدي بداء الرئة أي مرض السُل الذي كان شائعًا في تلك الأيام, وتتدهور حالته بسبب استهتاره, فما أن يتحسن مع تقدم العلاج إلا ليعود لحياة السهر والعربدة, فيضطر للعلاج في مصحة حلوان ومع إحساسه بدنو الأجل يعود لبيته, ليروي لنا نجيب محفوظ في براعة تستدر دموع القارئ عن تبدل الحال وتصاريف الحياة. فالشاب اللعوب رشدي الذي لا يكف عن الضحك واللهو, يسقط صريعًا لمرضٍ خبيثٍ, ينهكه العلاج وانعدام النوم وأعراض المرض, بل ويُفصَل من عمله بالبنك وتفارقه خطيبته نوال مُجبرةً من أبيها بعد اكتشاف سبب علته. تتبدل مشاعر أحمد عاكف من الحقد على شقيقه إلى التعاطف معه واكتشاف عمق محبته له في محنته التي كسرتهم جميعًا, كأن أحمد عاكف قد ضاق من اضطرام مشاعر الحقد والكراهية في نفسه, فهي لم تُلوِث إلا قلبه ولم تُسَوِد إلا حياته التي فارقها الرضا. كأنه يسعى للتطهر من الأدران وخطايا النفس ويتصالح مع نفسه وحياته بعد وفاة رشدي.
وقد برع نجيب محفوظ في صياغة مقاطع نثرية طويلة مؤثرة تصور حوار النفس الداخلي بكل ما في المشاعر من تعقيدات عجيبة تدهش الإنسان لاكتشافها. من الإحساس بالواجب تجاه الأسرة إلى الشعور بالتباهي بذلك, ثُمَّ الغرق في مستنقع الرثاء للنفس لما آلت إليه أحوالها بسبب ما قدمته من تضحيات لم تجد مقابلًا لها فتسقط في هوة الحقد على الجميع, إلى استيعاب دونية مثل ذلك الشعور وجدية محاولة التحرر من أسره.
تغادر الأسرة خان الخليلي قبل حلول شهر رمضان إلى منطقة الزيتون, ويتعرف أحمد عاكف على شقيقة زميله صاحب البيت الجديد الذي ينتقلون إليه, ويترقى في وظيفته بعد أن قررت الحكومة إنصاف المنسيين في وظائفهم.
“هل يذكر يوم أَقبلَ على هذا الحي وفي النفس شوق إلى التغيير؟ لقد حدث التغيير وأحدث دمعًا وحسرةً وها هو ذا رمضان مقبل فيا للذكرى! أيذكر كيف استقبل رمضان الماضي؟ أيذكر موقفه من النافذة الأخرى في انتظار أذان المغرب وكيف رفع البصر فرأى؟ وجرى أمام ناظريه التاريخ الذي كتبته الليالي متتابعات حتى هذه الليلة بمداد الأمل والحب والألم والحزن. وهذه الليلة الأخيرة وغدًا يبيت في دارٍ جديدةٍ في حيٍ جديدٍ موليًا الماضي ظهره.”
في خان الخليلي يرسم نجيب محفوظ صراع الآمال الخائبة والعمر الضائع, اقتناص اللذَّات العابرة والمتع الدنيوية في مقابلة بين صراع الأفكار قديمها وحديثها, انهيار الإنسان وعجزه أمام فاجعة المرض والموت. محدودية تفكير العقل فيما يلتمسه من أسبابٍ للأمان والسكون لينتهي به الأمر أمام ما لم يعمل له حسابًا. دومًا ما يتضح لنا أن ثمة أمرًا ناقصًا تفتقر إليه عقولنا وأرواحنا, عندما يهدها الفشل والإحباط. لكن أيضًا يبقى شعاع من نور يُضيء الطريق في نهاية المطاف إن تَخلصنا من الشوائب التي تعلق بالنفس في رحلتها.
شرح نص
إعجابإعجاب