قراءة في رواية ربيع الشتات للأديب سراج منير يكتبها إسحاق بندري


ربيع الشتات

قراءة في رواية ربيع الشتات
للأديب سراج منير
يكتبها إسحاق بندري

في إهداء الرواية تلخيص لمضمونها.
” إلى كل قطرة دم سالت من أجل حلم نبيل حتى إن لم يتحقق”. وفي هذا الإطار الذي يدور في أعقاب أحداث ثورات الربيع العربي التي انقلبت شتاتًا لشخصيات الرواية, يقدم لنا الروائي البارع الدكتور سراج منير رسمًا ثلاثي الأبعاد لشخصياته البالغة التعقيد بسبب ما مَرَّ على كل منها من خطوب حفرت في نفوسهم ندوبًا نازفة لا تندمل سريعًا. رواية فيها رثاء لأحلام الشباب المُجهَضة وقد استحالت إلى أوهام وسراب, وأطياف الحرية قد انقلبت إلى فوضى ودمار. حالة هروب من شظف العيش وقسوة الحياة في بلادهم مهاجرين للخليج في أمل لتحسين ظروفهم أو الفرار من الإحباط والانكسار والشعور بالذنب وفقدان الأحباب.
ينسج لنا سراج منير شبكة متشعبة من المشاعر الإنسانية المتباينة من أقصى اليمين لأقصى اليسار, بأحلى ما في النفس من مشاعر الحب والخير والمثل العليا إلى أحط ما فيها من تبرير للشر والإثم, من أحلام الرقي والرفعة إلى خسة رغبات الثأر والانتقام.
شخصياته تمثل كافة الدول العربية التي عصفت بها ثورات الربيع العربي من مصر وسوريا وليبيا, لتأتي كلمة ساخرة في أحد المقاطع الحوارية عندما يقول أحدهم أنه ينقصنا عراقي ويمني لتكتمل الخيبة.
فهنا “حسن” المصري الجنسية, الذي شارك في أحداث ثورة يناير 2011 تسوقه مثالياته تجاه التغيير ورفعة مصر وطلب الإصلاح والتغيير, حتى إصابة ذراعه بسبب شظية والتي لا تني توجعه تهون في عينيه. ولكن مع توالي الخيبات تأتي التساؤلات القاسية عن جدوى ما بذله. تهالكه على النزوات والشهوات وارتشاف اللذة العابرة هو تعبير عن إحباط وجدب في نفسه ومحاولة يائسة للهروب من الانكسار والفشل الذي يحيط بحياته التي دومًا مع يقارنها مع حياة المحظوظين. فهو مثلًا يقود سيارة أجرة ويقارن حاله بحال المترفين راكبي السيارات الفارهة من حوله في الطريق. انكسار قصة حبه لنهلة المفرطة في الواقعية, حججه عن نزواته المستمرة, بداية قصة حبه مع جانيس الفيلبينية والتي تحولت تدريجيًا من نزوة عابرة إلى طلب للزواج والاستقرار. يكتشف مع الوقت أنه غارق في حبها لرقتها وحنوها, رغم الصدام المتكرر بينهما, فهي تعتقد أن قصه اشتراكه في ثورة لم تتحقق منها الأحلام المرجوة ليست بالمأساة مقارنة مع وضعها الصعب فهي تعمل لتعول ابنتيها في بلدها بعد خذلان زوجها وخيانته واستهتاره وكل ما تطمح له هو توفير حياة وتعلين لائقين لطفلتيها.
يكتشف الإنسان نفسه تدريجيًا في احتكاكه مع المختلفين عنه في العرق والعقيدة, فهي تتهمه دومًا بالعنصرية والاستعلاء والشعور بالتفوق وهذا الصدام يبدو كاشفًا للإنسان عما يعمل في نفسه من متناقضات ضخمة لا يستطيع إنكارها مهما حاول تسويغها.
وعلى النقيض منه شخصية “هشام” الليبي الجنسية. فهو ورع متدين ومثقف منفتح على شتى الثقافات والآداب ويطمح في تحسين وضعه من حارس عقار إلى كاتب في المجلة التي يقع مقرها في ذات العقار. ومن جديد تبدأ قصة حب مع الكويتية “شيخة” ذات التعليم الغربي والانفتاح العصري. لتبدأ من جديد مكاشفة الذات بينهما, فهشام السمح الخلوق يخفي سرًا كبيرًا, فقد ارتكب جريمة قتل يحاول تبريرها على أنها قصاص لمقتل زوجته على يد المقاتلين, بيد أن ما لا ينكره في قرارة نفسه هو أن الرغبة في الثأر والتعطش للانتقام كانتا ما يدفعه دفعًا, فضلًا عن شعوره بالذنب والمسؤولية عن مقتلها. تتبدل الصورة لدى “شيخة” عمن فتحت له قلبها الذي يخاف من الوقوع في الحب بعد قصص حب فاشلة. ولكن مشاعر الحب بين هشام وشيخة لا تموت, فبعد البوح والصدمة التي تليه تتوفر فرصة أخرى وتظل الأيادي ممدوة والأبواب مفتوحة.

كل هذه المساجلات والشد والجذب بين مختلف أنماط الشخصيات التي يعذبها شعور الإخفاق سواء في الحياة الخاصة, وانكسار أحلام الأوطان يسردها لنا الأديب الدكتور سراج منير في تشويق وإمتاع, يطرح أسئلة معقدة عاصفة للذهن عما نعتقد أنه من الأمور الطبيعية في حين يراها من يخالفوننا وجهة النظر على أنها عنصرية مقيتة. فالكل في لحظة يظن أن اعتقاده الديني هو الوحيد المنطقي واعتقادات الآخرين ملئية بالفجوات, والآخر المختلف لديه نفس الرأي أيضًا. حتى أذواقنا في الطعام تفرض نفس الطرح, ما اعتدناه هو الأفضل والأحسن والأرقى. وعندما تسفعنا لحظات المواجهة مع الآخر المختلف تتبدى جلية لنا أشد عيوبنا التي لا نستطيع الفرار من مواجهتها مهما حاولنا تبريرها في مقابلة ما يقدمه الطرف الآخر من حجج وتفنيد.
ربيع الشتات الصادرة عن دار الكتب خان, على ما تفيض به وجع وانكسار إلا أنها تقدم لنا أملاً ورجاءً في مشاعر الحب الصادقة التي تضمد ما أثخن النفس من جروح مضنية, يد الحب الممتدة في حنو لتجاوز الضغائن والصغائر, إن تعرت النفوس عن أصعب ما فيها من ضعفات تخجل منها مهما إدعت من القوة أو السخرية, إلا أن صدق الشعور والرغبة في الاحتواء هي خير ترياق ودواء للشفاء.
في لغة سهلة سلسة وسرد ممتع, ووصف دقيق لأدق المشاعر, يكتب سراج منير بقلم الأديب وريشة الرسام ومبضع الجراح, يكشف لنا عورات الروح مهما بدت موجعة, يطرح أعقد الأسئلة مهما كانت إجاباتها عسيرة, يصور لنا حياتنا الواقعية بكل لحظاتها البسيطة وأحلامها الكبرى. رواية ربيع الشتات هي المرثية التي لا تفارق كل من عصفت ببلادهم الثورات ولم تتحقق لهم ما تطلعوا له من أمنيات, وهي المبتغى الذي يتوق إلى ما هو أفضل وأرقى ويسعى للتطهر والإصلاح والبحث عن الحب الشافي.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.