من قتل رجاء عليش ؟
“عشت هذه السنين الطويلة وأنا أحلم بالإنتقام من أفراد المجتمع الذين افلحو في أن يجعلوني أكفر بكل شيء” بهذه الكلمات اختتم الكاتب المصري رجاء عليش حياته، فأرسل كلماته الى النائب العام وبعدها فرط في روحه بإطلاق الرصاص على رأسه ! تعودنا أن لكل وجه مظلم زاويته المضيئة، وأن الظلام يتبعه شروق حتمي للشمس ..فكيف تظلم حياة إنسان وتختفي منها الشمس إلى الأبد ؟! تاملت حياة “رجاء عليش” الكاتب المصري المغمور الذي لم ينال تقديرًا او حظًا أو اعتراف بالموهبة، بل هو سقط ضحية لما ليس له يد فيه ” القبح” . القاريء الجيد لكتابيّ عليش ( لا تولد قبيحًا- كلهم أعدائي) سيفهم بسهولة واضحة معاناة الكاتب مع خلقته، ولد طفل بعيد تمام البعد عن القبول فنبذه العالم، ونفرت منه النساء فعاش وحيدًا كحيوان مصاب بالجرب وسط جموع بشرية متلمعة . “أصبحت أؤمن أن القبح ربما كان أفظع العاهات وأكثرها إيلامًا وتدميرًا للنفس الإنسانية على الإطلاق ” معللًا ذلك بقوله الباقي ” الإنسان القبيح لا يثير إشفاق أحد من الناس أو إحساسه بالعطف عليه أو الرثاء له.. القبح يستفز مشاعر الآخرين العنيفة .. يستفز كل حاستهم النقدية الساخرة فيوجهونها بضرواوة تجاه الإنسان القبيح قاصدين إهانته وتدمير معنوياته . وتأخذنا مأساة عليش الى اننا لا نواجه شبه القبح فقط، إننا أمام أزمة عامة أكبر وهي عدم قبول المختلف، وهذه هي التي تعصف بمن لا يشبهوننا. فحسب الدراسات الأنثروبولوجية وعلم الاجتماع تبدأ السلسة بالسخرية من المختلف، ثم الإزدراء يليه التحاشي ثم الإعتداء .. ثم السعي إلى الإبادة، فلا يطيق البشر التعايش مع المختلف دون تميز لإختلافه او توجيه الأذى له، وأبسط مايكون هذا الأذى هو السخرية الذي يمكننا ذكر أثاره النفسية المدمرة في مقال آخر أكثر تفصيلًا . يشاركنا عليش تفاصيل مأساته وسط المجتمع و شكل النبذ في كتابه لا تولد قبيحًا فيقول ” الآن أشعر أنني وصلتُ إلى الحضيض، فالأمر تجاوز مجرد الإندهاش في العيون إلى الوقاحة المتعمدة من جانب الآخرين ..الشتائم وصيحات الإستنكار وصفير السخرية كلها تتابعني في كل مكان أحل به ..إنهم يبصقون على الأرض بشدة عندما اقترب منهم وقد أمتلأت وجوههم بأقصى درجات الكراهية..إنني في نظرهم متهم بكل التهم القبيحة فأنا مجنون شاذ غريب غبي قبيح وهذا يدفعني للتساؤل عن معنى العدالة ومعنى الإنسانية ” لا أتصور كم المعاناة التي عاشها الكاتب وهو يسطر هذه الكلمات، شعور إنسان له نفس الحواس والقلب بهذا النبذ والإحتقار لسبب لا يد له فيه، لم يكن هناك فرار من التفريط في روحه ..لأن الجسد ليس مقبولًا بالمجتمع، حتى وإن كان العقل عقل مبدعّا استطاع ان يوصل افكاره في كتابيه ويمتلك أدوات جيدة لكاتب موهوب كان يمكن ان ينال تقديرًا ولو ضئيلًا لهذا الإبداع .. ربما في حياة عليش كان الجسد هو الاهم، هو المدخل لكل شيء دون النظر إلى الروح أو العقل ومايحويه . يستمر رجاء عليش في سرد معاناته فيصور لنا كيف عاش وحيدًا بلا أمرأة واحدة في حياته، فقد حكم عليه قبحه بالوحدة الأبدية التي مزقته دون شفقة ولم تعبأ بالإشتياق الفطري الطبيعي لإمراة تشاركه أوقاته أو تكسر وحدته، فيقول على لسان أحد شخصيات روايته ” كلهم أعدائي” : لا يجد حرجًا وهو يعبر جسر الأربعين – جسر اللاعودة من الشباب إلى الشيخوخة – في أن يصرخ طالبًا الحصول على امرأة ..امرأة واحدة فقط ..حاجته الحميمية أقوى بكثير من كرامته ..من أعتزازه بنفسه، لكن هذه المرأة الوحيدة لم توجد في حياته أبدًا ” في لحظة مظلمة تتداخل فيها الحقائق نتذكر رجاء عليش ونتسائل، من الذي يليق به القبح .. هو أم المجتمع؟ من الذي قتل نفسه ..هو أم البشر من حوله قد صوبوا مسدسه تجاه رأسه وأرغموه على الضغط على الزناد بقوة فتخرج رصاصات أربعة تفجر رأسه ؟ من قيّد البريء وألقى به حيَا إلى بحر النبذ والإعتداء .. فغرق باكيًا راثيُا نفسه في كتاب ورواية ؟ وتبقى الأسئلة دون إجابة .. “نم هانئًا سعيدًا يامن لم تعرف الراحة في حياتك” – كلمات غلاف كلهم أعدائي – الكاتب رجاء عليش .
مقال رائع يعكس نفساً صافية راقية تكتب عن نفس معذبة راقية أيضاً. استمتعت بالسرد وبمعلومات أعرفها لأول مرة. هنات لغوية بسيطة نمر بها جميعاً ويمكن تداركها. أبدعت.
إعجابإعجاب