قراءة في رواية “سفينة نيرودا” يكتبها إسحاق بندري


 

قراءة في رواية “سفينة نيرودا”
يكتبها إسحاق بندري

سفينة نيرودا (بتلة بحر طويلة)
إيزابيل ألليندي
ترجمة: صالح علماني
دار الآداب ـ لبنان 2020
الطبعة المصرية إصدار مشترك بين دار الآداب بلبنان ومكتبة تنمية بمصر

“بتلة بحر طويلة” هو الاسم الأصلي للرواية التي صدرت بالإسپانية العام الماضي وآخر ما ترجمه الراحل صالح علماني قبل وفاته العام الماضي أيضًا, وهذا العنوان هو اقتباس شِعري يصف فيه الشاعر التشيلي العظيم پابلو نيرودا بلاده بأنها: “بتلة بحر ونبيذ وثلج متطاولة”
في ختام الرواية تخبرنا إيزابيل ألليندي أنها سمعت للمرة الأولى عن سفينة وينيپج أثناء طفولتها في بيت جدها, تلك السفينة التي حملت على متنها لاجئين من الجمهوريين الإسپان الفارين من قمع الدكتاتور الفاشي فرانكو بعد وصوله للسلطة وبطشه بكل المعارضين.
“هذه رواية, ولكن الأحداث والشخصيات التاريخية حقيقية (پابلو نيرودا, سلڨادور ألليندي, أوجستو پينوشيه, فرانكو). شخوص الرواية متخيلون وقد استوحيتهم من أناس عرفتهم. كان علىَّ أن أتخيل قليلاً جدًا لأنني عندما قمت بالبحث المستفيض وهو ما أفعله دومًا في كل كتاب, وجدت نفسي أمام فائض من المعلومات. هذا الكتاب قد كَتَبَ نفسه بنفسه كما لو أنه قد أُملىَ علىًّ.”

تبدو الجملة الملهمة التي ترد على لسان ڨيكتور دالماو في الصفحة الأخيرة من الرواية, محور الأحداث كلها: “لو أننا عرفنا ذلك كله لكانت القصة قد اختلفت تمامًا, ولكننا لن نحصل على شيء من تقليب الماضي.”
تقع الرواية في ثلاثة أقسام كبري: حرب ونزوح, منفى وغراميات وفراق, عودات وجذور, وهذه الأقسام تضم ثلاثة عشر فصلاً في 418 صفحة وتغطي فترة زمنية طويلة بداية من العام 1938 أثناء الحرب الأهلية الإسپانية قبل عام من اندلاع الحرب العالمية الثانية حتى بداية تسعينيات القرن العشرين.
عبر أحداث الرواية تطرح إيزابيل ألليندي أسئلة معقدة عن الانتماء والجذور والعائلة وقيمة الوطن والاغتراب في المنفى بما يصور ما اختبرته هي شخصيًا من غربة ونفي في حياتها كما ذكرت في كتابها الشهير “پاولا”.
البطل الرئيس في أحداث الرواية هو “ڨيكتور دالماو” الذي تبدأ أحداث الرواية بذكره وقد نجح فيما يشبه المعجزة في إنعاش عضلة قلب مجند مصاب في الحرب في معسكرات الجمهوريين ليعيده من جديد للحياة, رغم أنه كان ما يزال طالبًا لم يستكمل دراسته للطب لكن الممارسة العملية على جبهات القتال أضافت له من الخبرات المتراكمة ما يفوق المعرفة الأكاديمية النظرية.
ومع احتدام شدة القتال وانتصار القوميين وهزيمة الجمهوريين ووصول الچنرال فرانكو لسدة الحكم, يجد ڨيكتور نفسه مضطرًا للنزوح من إسپانيا برفقة أمه بعد وفاة أبيه مارسيل, ومعهم روزر بروجيرا الحبلى من أخيه ويليام المفقود في المعارك.


آل دالماو كانوا من ضمن ألفي مواطن إسپاني من الجمهوريين تكفل الدبلوماسي والشاعر التشيلي العظيم پابلو نيرودا (حاز على جائزة نوبل في الأدب للعام 1971) وصاحب الميول الاشتراكية, بإبحارهم على متن السفينة وينيپج إلى موطنه تشيلي رغبةً منه في إنقاذهم من بطش فرانكو من ناحية ولا آدمية مخيمات النازحين في فرنسا من ناحية أخرى فضلاً عن تجاهل العالم كله لما هم فيه من إذلال مهين, وسط معارضة صاخبة من اليمين في تشيلي على قدوم هؤلاء الحُمر إلى بلادهم, رغم أن نيرودا كان يرى فيهم إضافة ثرية لمجتمعه قادرة أن وتهزه من سباته وتعلم مواطنيه ما يفيدهم.
وصف نيرودا هذا اليوم في قصيدة له:
“فليمحُ النقد شِعري كله
إذا ما بدا له ذلك
لكن هذه القصيدة التي أتذكرها اليوم
لن يستطيع محوها أبدًا”
أما روزر بروجيرا فقد كانت راعية ماعز فقيرة تبناها أستاذ جامعي ثري “سانتياجو جوثمان” الذي يلاحظ موهبتها الموسيقية الفطرية ويساعدها في تعلم العزف على الپيانو وبفضله تحصل على بعثة أكاديمية لدراسة الموسيقى ولكنها تتأثر بأفكار أستاذها الاشتراكي مارسيل دالماو كما تربطها علاقة عاطفية عابرة مع ابنه ويليام الذي يقاتل في صفوف الجمهوريين ضد فرانكو وحلفائه ويُفْقًد في القتال في حين تكتشف أنها حبلى منه.
ومع موت الأب مارسيل دالماو ونزوح الأسرة إلى فرنسا وفقدان الأم كارمي التي تضل طريقها أثناء النزوح, يجد ڨيكتور أن عليه إخبار روزر بعد إنجابها الصغير مارسيل بوفاة شقيقه ويليام إذ لم يستطع إخبارها بذلك قبلاً ويعرض عليها الزواج حتى لو كان صوريًا فقط لتتمكن من الرحيل معه إلى تشيلي.
ومع وصولهم إلى تشيلي تتداخل قصة آل دالماو مع عائلة دل سولار الثرية. إذ يقع ڨيكتور في قصة حب متأججة مع أوفيليا دل سولار المخطوبة إلى الدبلوماسي ماتياس إيثاجيري, ولكن هذه القصة لا تكتمل بسبب العوائق الاجتماعية المعقدة. تنهي أوفيليا النزقة هذه العلاقة بعد أن تكتشف حبلها من ڨيكتور ولا تخبره بذلك ولا تخبر أهلها عن والد جنينها. تعصف الفضيحة بالعائلة المحافظة التي تلجأ لقريبهم الأب بيثنتي أوربينا الذي يدبر مكيدة كبيرة في تواطؤ مع لورا ( أم أوفيليا) بالتخلص من الطفلة الوليدة وتقديمها للتبني لأسرة من أصل ألماني, في حين يخدع أوفيليا التي كانت في غيبوبة أنها أنجبت طفلاً مات بعد الولادة ويريها قبره الفارغ. يتضح مع تقدم الأحداث أن الأب أوربينا كان يقوم كثيرًا بمثل تلك الأمور للتستر على فتيات العائلات الراقية وكان يتكسب ماديًا من ذلك.
لم يفارق عذاب الضمير الأم لورا حتى وفاتها وعندما كانت تهذي بهذه القصة القديمة تسمعها الخادمة خوانا نانكتشو وتخبر فيليپي شقيق أوفيليا عن قصة ابنة شقيقته ومكيدة الأب بيثنتي أوربينا, ليتتبع فيليپي مسار القصة حتى يصل إليها وحتى لا تظل روح لورا عالقة في المطهر وحتى ما تتمكن خوانا من الموت بسلام في آخر حياتها.
يجتمع الشمل مع إنجريد التي كانت تشعر طوال الوقت أنها لا تنتسب لتلك الأسرة الألمانية التي لا تشبهها وتذهب لزيارة أبيها ڨيكتور وتعرفه بنفسها في مفاجأة غير متوقعة قبل غروب شمس حياته, هو الذي فر من إسپانيا هربًا من قمع فرانكو, ليعيد بناء حياته من جديد في تشيلي ولكن بسبب صداقته للرئيس الاشتراكي سلڨادور ألليندي يضطر للهروب إلى ڨينزويلا بعد الإطاحة بنظام ألليندي في انقلاب عسكري, ولا يعود إلى تشيلي إلا بعد استقرار الأوضاع في بداية الثمانينيات.
تتجلى مفاجآت الحياة بشكل يصعب تخيله. روزر كانت تعتقد أن ويليام هو حب حياتها ولكنه يتحول إلى ذكرى باهتة مع اكتشاف عمق حبها لڨيكتور في تلك العلاقة الغريبة التي تحولت من زواج صوري إلى صداقة متينة ثم حب متجذر.
سفينة نيرودا هي تجسيد لويلات الحروب ومعاناة المسحوقين والفقراء ومن تسحقهم الحروب, في سرد شيق وبناء متين تصل فيه إيزابيل ألليندي إلى ذروة نضجها الأدبي. تمزج بين التاريخ العامر بالأحداث المتتابعة, يظهر فيها النزاع بين الرأسمالية والاشتراكية, الديمقراطية والدكتاتورية من خلال شخصيات مركبة مرسومة بحرفية عالية.
إن كانت إيزابيل ألليندي في كتابها “پاولا” قد روت الكثير عن أستاذها پابلو نيرودا الشاعر العظيم الذي عاش حياته مدافعًا عن مثالياته ومتسقًا مع ذاته وتقتبس الكثير من مقاطعه الشعرية في مطلع كل فصل, وعمها سلڨادور ألليندي بإسهاب وتفصيل, إلا أنها في سفينة نيرودا تبدو أكثر موضوعية في تقييم فترة الحكم الاشتراكي في تشيلي وانتقاد سلڨادور ألليندي على حياته الباذخة المرفهة. فما نراه في شخصية فيليپي عبر الرواية يُظْهِرُ انتقادًا ضمنيًا لتلك الفترة, فهو الرومانسي المثالي الناقم على المجتمع البرجوازي الذي ينتمي له وفي أخر الرواية يتخوف أن يكون النهج الاشتراكي ما هو إلا مقدمة لدكتاتورية عسكرية فالفارق كبير بين ترديد الشعارات الجوفاء وممارسة الحكم فعليًا.
تظهر مدارات التاريخ وتكراره لنفسه أمرًا مؤسفًا ولا يتعلم منه أحد, فما حدث في إسپانيا تكرر في تشيلي ولكن الرغبة الإنسانية في مواصلة الحياة والبداية من جديد لا تنتهي أيضًا. ولا يخفى عن القارئ أن إيزابيل ألليندي نفسها قد اختبرت مرارة المنفى بعد الإطاحة بعمها سلڨادور ألليندي ووضع اسمها في قوائم المطلوبين للتوقيف, عاشت في ڨينزويلا ثم الولايات المتحدة لتتجاوز مرارات الماضي وتصبح من أهم أدباء العالم المشهود لهم.
التمسك بالجذور في مقابل بداية حياة جديدة وغرس جذور جديدة في متوالية لا تتوقف هو ملمح رئيس في كتابات إيزابيل ألليندي وإن كان إسقاطًا ماهرًا منها ضمنته باقتدار بما سيبقى في نهاية المطاف؛ ڨيكتور دالماو الطبيب المحب لعمل الخير ومساعدة الناس في كل الظروف, روزر بروجيرا الفنانة الموسيقية التي تبعث الجمال مهما كانت حياتها قاسية. حب الخير والفن العظيم هما ما يبقيان في النهاية وما يستحقان أن نجد في إثرهما لنتجاوز الهزائم والألم.

“يمكن لنا جميعًا أن نتحول إلى وحوش إذا ما أعطونا بندقية وأوامر”

“انظري يا إنجريد, أهم الأحداث, تلك التي تحدد المصير تتفلت تمامًا من تحكمنا بها في معظم الأحيان”.

 

 

الإعلان

1 Comment

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.