حركة الفكرة في نص (قدري بلا لون) للكاتبة المغربية الشابة “نسيبة شباط”
بقلم الأديبة والناقدة د /إيمان الزيات
عضو اتحاد كتاب مصر
قدمت ” نسيبة شباط” الكاتبة المغربية الشابة قلمها للمرة الأولى في مَجْزوء نصها الأدبي (قدري بلا لون)، فعبّرت فيه برهافة عن مؤرقات الفتيات المأزومات ممن هن في مثل عمرها، واستخدمت اسمها الحقيقي في المذكرات التي تحكي لنا عن فتاة تقع فريسة أحداث حياتية مأزومة تفقد فيها توازنها وأمان الحياة الأسرية الطبيعية، وفي تصاعد تراجيدي تتسلم الفتاة إفادة بعدم قبولها في معهد التمثيل؛ فيتحطم حلم آخر من أحلامها على صخرة الواقع العنيد، و تتلون الحياة أمامها باللون الأسود فتُقدم على الانتحار، لكنها لا تنجح في ذلك بفضل إصرار صديقها “حسام” في ذلك اليوم على إنقاذها.
ليست هذه نهاية تراجيديا “نسيبة شباط”؛ فلقد رافق هذا الإنقاذ ثمناً باهظاً دفعته الفتاة بخروجها من صندوق تجربتها المؤلمة بعاهة منعتها من الحركة، لقد عاقبتها الظروف ووسمتها بحالة جسدية تُذكرها بلحظة رسوبها في اختبار الجَلَد و التحمل، لحظة فقدان روحها سراج الأمل.
إن النص عبارة عن نموذج أولي وصياغة مبسطة لفن تصاعد الأزمة وصناعة الحبكة، واقصد بالحبكة هنا “تلك البنية الدرامية الداخلية التي تعد جوهر العمل الفني وتتمثل “بحركة فكرة” تلقَى في وسط ساكن جاعلة اياه وسطاً متغيراً، تتحرك عناصره منتجة طاقة تتفاعل فيها ثلاث حركات رئيسية هي : (حركة الفعل، وحركة الشخصية، وحركة الزمن)”[ د. عز العرب – ورشة الحبكة في العمل الدرامي]
لعبت الكاتبة الشابة” نسيبة شباط” لعبة الضمائر كما أطلق عليها الناقد الفرنسي “ميشيل بيتور” و تكلم عن تأثيرها القوي على الدفع بالزمن للخلف أو للأمام ببساطة وتلقائية، وبطريقة وضعت القارئ في موضع اتحاد مع الشخصية حيناً وانفصال عنها أو دائناً لها احياناً أخرى بفضل تنوع الضمائر ما بين الغائب، والمخاطب، و المتكلم.
استخدمت “نسيبة” المؤقت الزمني، و المحدد المكاني في بداية كل حدث وهو نمط كتابة اليوميات أو المذكرات التي تحولت إلى وسيلة استشفائية ناجحة، عبرت البطلة من خلالها عن فهمها لحقيقة أن قوة الإنسان تنبع من داخله؛ وأن عزمه على تغيير أحداث حياته للأفضل هو الريشة التي يلون بها أقداره؛ فهو قنديل نفسه وسراج عزيمته.
يمنح العنوان أيضا ايحاء بإمكانية تلون قدر البطلة بأي لون تشاءه، والأحداث تكمل الجملة، بأن ذلك يتوقف على قوة إرادتها الشخصية وعزمها.
” قدري بلا لون ”
نسيبة شباط – المغرب
_ يا فتاة افتحي الباب !
ذاهبة تلك الصرخة في مهب الريح….
– صديقتي ! هذا أنا حسام افتحي الباب الآن..
” يوم ١٤ أكتوبر ٢٠٢٠”
(حسام) عمره ما يقارب التاسعة عشر سنة و هو رفيق درب نسيبة، جمعتهم علاقة صداقة و أخوة، و منذ عشر دقائق و هو يطرق الباب بلا توقف أو فقدان أمل في فتح أعز صديقاته الباب .
_ افتحي الباب الآن و إلا كسرته!
بتنورة مكوية بعناية، شعر اسود غامق ، واضع على انفه نظرات شمسية بنية اللون ، متجهم ، فقد ظن أن الايام كفيلة بلملمة جروح صديقته ، لكنها زادت بحالتها من الأحسن الى الأسوء …فخلال الأيام الماضية لم تغادر المنزل متأثرة كل التأثر بما حدث لها..
(نسيبة) شابة تحبو للثامنة عشر من عمرها ، فقدت والديها منذ سنة فاضطرت للعمل و الدراسة في آن، و رغم المعانات حازت على نقط حسنة في الباكالوريا، كانت مجدة و محبوبة من طرف كل الناس، أحلامها كبيرة فمنذ صغرها تمتعت بحس الفكاهة و تجسيد الأدوار كان شغفها ان تصبح ممثلة عالمية، لكن بعد فراق الأبوين عاشت رفقة خالتها في بيت متواضع تتحدى الأيام الصعبة …ذات يوم أرسلت طلب الالتحاق بالمعهد العالي للتمثيل و التنشيط الثقافي فما تلقت إلا الرفض للأسف ” تم رفض الطلب ” فتحطمت جل أحلامها و انطفأ الشغف؛ فقالت بحسرة ” هل قدري بلا لون.. ؟ ”
_ ألتمس منكِ ذلك مجدداً دعيني أدخل ؟
كان حسام يأتي كل مساء ينقر ذاك الباب الخشبي الهش دون أي رد.
فقال صارخا : ” لم يبق وقت للمماطلة ”
– ” حسنا كما تريدين ” فأعاد الكرة مهددا، رامياً نظاراته على الأرض.
كان الشارع يغفو تحت شمس ذهبية لوصول الخريف، خاليا من الناس المحشورين في بيوتهم كأسماك السردين.
و بعد ادراكه أن المجال مفتوح لمحاولة أقوى شرع في العمل على الفور، بدأ يدفع الباب بكل قوة حتى كسر مقبطه.
و هو يلج المنزل مسرعاً قال:
” هل لي الحق في حمايتها من نفسها ؟”
كان البيت مغمورا بالعتمة، تفوح منه رائحة العطن هادئا في صمت مريب …مخربا كأنه تعرض للغزو.
نسيبة منكمشة فوق سريرها في حالة يرثى لها ، منفوشة الشعر…شاحبة الوجه
_ انهضي ! صرخ حسام بلا جواب
فما لمح إلا العديد من الأدوية، فبدأ بتفحص ملصقاتها ” أوراسيلين…دولوفون، إنه خليط جهنمي من الأدوية!!”
امسك حسام بيدها محاول تحريكها، لكن يا الله انها لا تتحرك..! ”
الساعة ٧:٠٠ مساءا
رواق مستشفى محمد الخامس
أمام غرفة العمليات
سأل حسام الممرضة ” ماذا بهم ؟ لقد مرت ساعة و نصف و ليس هناك اي استفسار عن حالة صديقتي ؟”
” لحسن الحظ أسعفناها في اللحظة الأخيرة ، لقد حاولت الانتحار بتناولها لذاك الخليط الخطير الذي للأسف أدى بها لفقدان القدرة على المشي مرة أخرى…” قالها الطبيب وهو في قمة الأسف.
– ماذا أفعل هنا ؟” غمغمة المريضة
– لقد فتحت عيناها …نسيبة صديقتي لقد مرت ايام و انت مسجونة في غرفتك من فرط المسكنات” رد حسام
-اسمع هذه مشكلتي و الآن من فضلك ارحل ….” قالتها و الدموع تتساقط من عيناها
صمتت للحظة فحاولت النهوض ” لماذا لا يمكنني الشعور بقدمي…ماذا حصل أخبروني ؟!
يوم ١ نونبر ٢٠٢٠
على شرفة منزلها، جالسة مقهورة الخاطر على كرسي متحرك، تحتسي كوب نعناع و بين أناملها بعض حبات الماكارون، تفكر فيما مضى و تتحسر على حاضرها…فما أحست إلا برعشة برد في فصل الصيف، و ما لمحت إلا أوراق شحر تتساقط بين أحضان الربيع، بكت الصغيرة من شدة الوحدة و الألم، أحلامها تتلاشى بين نظراتها المؤلمة، لا حنان أبوين، و لا حضن حبيب، و لا كلمة من ونيس؛ فبعد جلوسها في هذا الكرسي هجرها الجميع، من وهبته فؤادها تخلى عنها تحت نظرات الشفقة، و من حسبته رفيق دربها غمره الملل فغادرها.
” و ما ذنبي يا الله كلما أحببت شيئاً ضاع من بين يدي، يا حسرتي على حلم تحطم في ثانية و على أيام مرت من حياتي كسرعة البرق ……..”
يوم ١ نونبر ٢٠٢٥
منذ خمس سنوات…فقدت طعم الحياة…حاولت وضع حد لكل الأوجاع…انتهى بي المطاف بين أنامل إعاقة ظننتها دائمة…فقدت الأمل مرة أخرى و استسلمت للواقع
و ها أنا بعد ٥ سنوات تحديت ذاك الواقع…أحببت إعاقتي فتركتني هي الأخرى و عادت الحياة لقدمي مرة أخرى…و تقبلت النمط الجديد…كنت ذاك القنديل الذي أنار حياتي مرة أخرى…حزمت حقائبي و ركبت مقصورة القطار ورحلت صوب أحلامي.
أنا نسيبة أبلغ الآن من العمر 23 سنة…طالبة في العام الآخير بالمعهد العالي للمسرح و التمثيل، و عضو في جمعية ” ما هي إلا إعاقة تفكير و ليس جسد ” بعد ٤ سنوات سأحصل على الإجازة في الكتابة و التأليف…٦ سنوات متتالية و أنا أدون سيرورة حياتي بمذكرتي الغالية و اليوم سأكتب آخر شعور.
“وما أصبحت إلا ومضات من الماضي، بعدما كنت جزء من حاضري و مستقبلي…كنت واقعي الحلو..الذي تغير مذاقه مع الزمن…بعد فراقك تعلمت درسا مهما أن لا شئ يدوم في هذه الحياة…”
“في تلك الليلة للمرة الاولى لم أذرف و لا قطرة.. من دموع، لم يدق قلبي من شدة القلق و الحزن..في تلك اللحظة علمت انها النهاية….بعد إعاقتي…أغمضت عيني لبرهة…و تخيلت مستقبلي بين أحرف الكسوف…و تخيلت الغد بدونك..فوجدته جميلا…ابتسمت ووضعت يدي على قلبي…و قلت “قد أحببتك”……..”
أيا مذكرتي الغالية !
انتهى الوجع بانتهاء صفحات الكتابة…حياة جديدة … أمل جديد، و أناس جدد…