عبير الطبربي تكتب “ذكريات الطفولة ”
– أنت الابنة الوحيدة لأبويك لا بد أنك عشت طفولة مميزة ، و لا بد أنك تحملين ذكريات شيقة كفتاة صغيرة مدللة ؟
– حسنا … في الواقع أنا لا أدري أي نوع من الأطفال كنت في مرحلة الطفولة ، قد كانت طفولة صامتة ، طفولة خالية من الأصوات ، طفولة ساذجة لا تعلو فيها القهقهات و لا ترتفع فيها رائحة المرح … الرائحة الوحيدة التي لم تنفك تداعب أنفي كانت رائحة الكتب ، أقلام التلوين ، أغلفة الكراسات البلاستيكية و رائحة الخشب القديم المنبعثة من طاولات المدرسة … لا أذكر ذاك الشيء الكثير عن طفولتي ، بقدر ما أذكر كل شيء تقريبا عن شيخوخته المؤلمة … قد كان جدي رجلا فارع الطول ، شديد البنية ، و كثير النشاط ، أنا أحن لرائحة الشاي الذي يعده ، كما أحن لجمع قواقع الحلزون بينما يرعى الشياه ، و أحن لرؤية ذاك الكرسي مرة أخرى ، الكرسي المثقل بثيابه داخل الحجرة الصغيرة … كانت صباحات الأحد مقدسة بالنسبة إليه ، كنا نجتمع فيها حول مائدة مستديرة الشكل ، ثقيلة الوزن ، كبيرة الحجم ، كانت تسعنا جميعا بقدر ما يسعنا قلب جدي و عينيه الضيقتين ، كانتا تسعاننا حتما و كنت أرى انعكاسنا جميعا داخل بؤبؤ عينيه الحكيمتين … كنت أمقت أيام الأحد بيد أني اشتقت أن تعود لأيام العطل رونقها و لذتها المفقودين … لا أعلم ما ان كان جدي قد تلقى و لو نزرا قليلا من العلم رغم هذا فقد كان يناديني “mademoiselle ” ، كانت تلك الكلمة تثير شيئاً في نفسي و كنت أتطلع إليه بعينين شاخصتين بينما تعلو وجهي ابتسامة حمقاء تشي بجهلي لمعنى تلك الكلمة ، كانت تغويني لكنته العربية بينما ينطق بعض الكلمات الفرنسية …
كانت الكلمة تشعرني بأنني أميرة أوروبية في ثوب فقيرة عربية ! كانت كفيلة بجعلي أقوم بأي شيء يطلب مني باتقان و على عجل …
لا أحمل ذكريات شيقة … الذكرى الوحيدة العالقة في ذهني هي تلك المرتبطة برحيل جدي …
لا زلت أذكر جثته المعلولة موضوعة أوسط غرفة الجلوس و عينيه الجميلتين الموضوعتين على السقف ، أذكر صوت جدتي المهزوم ، دموعها الحارقة و كلماتها المنطلقة من حلقها بخوف و رجفة شديدين ، رأيت كل هذا من خلال النافذة الصغيرة التي تتوسط الباب الخشبي ، و رغم أنه لم يمت يومها ، بيد أني قد رأيت في كل ما حدث معالم الموت لأول مرة …
أنا حقا لا أذكر شيئاً ، غير أن طفولتي كانت أقصر مما كان يجب أن تكون عليه ، و أني فقدت سريعا حيويتي ، بهجتي و شغف الأطفال الذي كان لدي … رغم أن جدتي لم تنجح في إبقائنا مجتمعين إلا أن ذكرى وجوده ، صوته الرنان و وقع حذائه على الرواق الإسمنتي لا يزال يفعل ، لا يزال الرابط قائما بيننا بسبب ذكراه فقط و لكن غيمة رحيله لم تكف و لو للحظة عن الهطول بسيل من اللوعة و الفقد …
الحقيقة أنني لم أكن مدللة سوى فالسنين الأولى من حياتي ، تلك السنوات العشر التي مرت سريعا ، ذهبت دون أن أدري و لم تعد …
أشعر اليوم بشيء يكتم أنفاسي ، و يرن في أذني صوت ملح يقول لي بأن أطلق ساقي للريح و أعود حيث كنت ، الى ذراعي ذاك الرجل العجوز الذي أحبني بصدق ، و لكن هاذا ليس ممكنا بشكل أو بآخر ، ما يتوجب علي أن أعيه الآن أنه يوجد أوقات يكون فيها المرء انسانا ، و أوقاتا أخرى يكون فيها مجرد شبح للماضي لا غير …
~عبير الطبربي
عبير الطبربي تكتب “ذكريات الطفولة “

مقالة جميلة ورائعة ومعبرة
إعجابإعجاب
ا
إعجابإعجاب