ميادة منير
(الكون والعلوم الإنسانية)
عالمنا الأكبر هو الكون،في الآفاق وبين الرمال وتحت الثرى، بكل ما فيه ومن فيه، بلغنا من ذلك علمًا أم لم نبلغ، شاملًا المادة والطاقة، الروح والجسد، الظاهر والباطن، الكون هو ذلك النظام الفسيح المردود علمنا عنه إلى الخيال، أو ما استُطيع التوصل إليه من حقائق قامت على البحث والتحليل والاستقراء والاختبار والملاحظة.
والعلوم الطبيعية تبحث عن كل مادة في هذا الكون الرّحب، حية أو جامدة، فهي تنبش كينونة ما يحيط بها من مواد طبيعية وجدت قبل وجود الإنسان على الأرض، فالنفس البشرية كائنة لتتمتع بالطبيعة وما يحمله العالم من جمال مقصود لحريتها، ونتاجها العقلي والحيوي، لأجل هذا كان حري بنا أن نمثل النظام خير تمثيل، وأن نستخدم مفهوم الحرية كأحسن استخدام، فما خلقنا في الكون إلا لننقب ونكشف عن جمال الكون ومن ثم تتم عبادة الخالق على الوجه الأمثل بمفهومها الصحيح الصائب القويم تحت روعة وسحر وبديع جل ما خلق في السماء والأرض.
إذًا، نظرة الإنسان في الآخر نابعة من التأمل في تجليات سلوكه في كونه، ويبقي نظرة الحيادي الممتحن لكافة الظروف والميول والأهواء على حقيقتها واختلافها شادًا في أمره وثاق الصدق، فهو إن ضل الطريق استحال الحق عنده إلى باطل، والباطل إلى حق، والعالم يعي تمامًا أن سببًا جليًا في انحراف الشعوب هو ما شاع صيته، وتجلت قيمه، وتناولته الألسنة، وأقرت به العقول، وفي أصله نفاقًا وكذبًا وضلالًا ما قُصد به إلى تضليل الأمة القوية وسلب إرادتها، وهيمنة الخرافات على لب أفرادها آخذة إياها إلى منحدرات التيه والإنحلال والفقر والضعة والضلال.
ووثوقًا بعلماء الغرب وثوق الجسد بالروح، يصدق الكثير من أبناء الشرق وشبابه نظرياتهم وآرائهم دون الرجوع إلى المنطق، ودونما استدارة العقل من جميع جهات التفكير بحثًا عن الحقيقة التى لا نتقصّى عنها كونها مخفية عن واقعنا أو مجهولة الأثر، بل لأننا نستند في الأساس إلى أقاويل باطلة، فتستوطن ذواتنا طبائع وأفكار دنية لا تفسح لنا مجالًا لفهم الحق على أوجهه الصحيحة.
فالحقيقة إذًا أن العلوم الإنسانية لا تُجتث في كثير من الأحيان إلا من أنفس لا يقوم قوامها إلا على الشر، ولا يبنى بناؤها إلا على أسس واهية، تحملنا غزالة الريح فيها إلى طريق البطش ثم تتركنا وأهواءنا، إن شئنا سرنا على الدرب، وإن شئنا عاودنا التأمل أول الأمر، وكثيرًا ما نُسيَّرُ إلى النهاية!
ولو تأملنا الكون بقلب سليم لوجدنا من أسراره وعجائبه ما يعين الواحد منا على فهم آياته فهمًا صحيحًا ملزمًا لسير الإنسان إلى غايته الوحيدة، ومبتغاه الأوحد وهو عبادة الله في كونه، اعتمادًا على منهجه وقوانينه ومنهجيته وسننه التي لا تتبدل بحال.
فإذا نحن أردنا بعثرة النفس الإنسانية لفهم دواخلها وكينونتها وماهيتها، وجب علينا استقراء الكون استقراءً صحيحًا تتجلى على أعتابه كوامن الصفات، ودوافع السجايا، وما خفي في الروح التي هي مادتها الحية وأصل الحياة فيها، فالعلوم الإنسانية على هذا النهج تحقق بُغيتها-إن كانت سليمة-من إدارة الذات وتأصيل الأخلاق الرفيعة السامية التي ترقى بالأمم وتمهد لها الخلافة الحق على أسس ثابتة لا تهتز طالما كانت تسير متناغمة تناغم الكون.