بين أزقة الذاكرة و شوارع الأهواز*🌴
✍🏻 بقلم: عماد ناجي
القسم الأول :
مدرستي و شارع ٢٤
كانت مدرستي في مرحلة الثانوية من أجمل المدارس في الأهواز، وأكثرها عراقة .
تسمى بثانوية السيد طالقاني فهي بناية جميلة شيدت من ذلك الطابوق الأهوازي (طابوق الجنكیة) الممزوج بطين كارون .
تتوسطها نخلة باسقة و حديقة مملوءة بالورود.
كانت عبارة عن مبنى ذو طابقين ،يضم الصفوف و صالة الإمتحانات و في الركن الجنوبي من ساحة المدرسة كان المختبر و المكتبة و في جنبهما مكتب مدير المدرسة.
ثانوية طالقاني كانت من أرقى المدارس من حيث التعليم في الأهواز و لى الشرف أنني تعلمت و تتلمذت هناك على يد أشهر المعلمين في الأهواز و أكثرهم خبرة .
الأستاذ عبيداوي كان يدرسنا مادة الكيمياء و الأستاذ هيبدي كان مدرس الرياضيات و الهندسة و الأستاذ برادران كان يدرس الرياضة و هو مدرب و حكم محترف لكرة السلة وله نشاط واسع في الرياضة ،الأستاذ كروسي مدرس اللغة الإنجليزية و كان يدرسنا بكل شغف و التزام ،و الأستاذ بالاهنك و هو من أصل كردي عراقي كان مدرس علم الأرض و في بعض الأحيان يأتي بآيات من القرآن الكريم خلال الدرس و يوضح لنا بعض المسائل مثل الزلازل و صفحات الأرض المسماة ب”تكتونيك ” .
الأستاذ خدري و هو شاعر و مدرس لمادة الفيزياء و من عادته كان في نهاية ساعة الدرس يقراء لنا بعضا”من أشعاره و غالبا” ما كانت هذه الأشعار عن الفقراءوالمهمشين و آلام المجتمع.
هناك معلمين اخرين لامجال لذكر أسمائهم ولكنهم أثروا في حياتي و خلدوا في ذاكرتي منهم الأستاذ زواري ،علمنا علم الأحياء وكان من المؤثرين جدا” في تعلمي لهذا الدرس الشيق و لا أنسى طرافته حين كان يدرسنا ،أتذكر أحد الأيام طلب منا أن نحفظ الأسامي العلمية للنباتات و بعض الحيوانات ،ثم صار البعض ينظر الى الآخر و أصبحت وجوههم معكرة و قاموا بالإعتراض على هذا الأمر و قالوا أنه صعبا” علينا.
فرد عليهم : كما تحفظون أسامي لاعبين كرة القدم جيدا” و تلفضونها بسلاسة ، على سبيل المثال “دييغو مارادونا” ،كيف لا تستطيعون أن تحفظوا وتلفظوا إسم “پزاليوتا كمپستريش” و هو الإسم العلمي ل” الفطر ” القابل للأكل .
هناك إيضا” شخصية فريدة و مثالية تعرفت عليها في تلك المدرسة و تتلمذت على يدها و هو المعلم والأستاذ و الأديب الدكتور عباس الطائي الذي كان يدرسنا مادة اللغة العربية في الصف الثالث الثانوي أي الحادي عشر و كان يعلمنا الدرس بكل شغف و حب و يقراء لنا في الصف من بعض أشعاره الجميلة و يحفزنا و يحببنا بلغتنا الأم ،العربية و كنا نفرح بتواجده بيننا ،خاصة و نحن عرب و لا أنسى ما كتبه بالطبشور الأبيض على السبورة في اليوم الأول للدرس ؛ “من لم يمت في الحب لم يولد ” أطال الله في عمره و حفظه إينما كان.
كنت أدرس الفرع العلمي أي “علوم تجربي” و كان التنافس العلمي واضح بين التلاميذ و أكثرهم كانوا يملكون العزيمة و المثابرة لدخول فرع الطب و الصيدلة و الهندسة في الجامعات الحكومية ،لكن المنافسة الضيقة في إختبار دخول الجامعات أي “كنكور” كان و مازال عائقا” لدخول البعض الى هذه الفروع الجامعية و حال دون تحقق أحلامهم و كما يقول المثل :تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.
مدرستي كانت تقع في شارع ٢٤ (متر) في قرب منطقة “باغ معين” أي بستان معين التجار، (الوكيل و المستشار التجاري للأمير شيخ خزعل حاكم المحمرة و أمير إمارة عربستان في مطلع القرن العشرين) .
كانت هناك عدة مباني جميلة و أثرية من ضمنها عمارة معين التجار التي توفّر إطلالةمباشرةعلى نهر كارون مقابل الجسر الهلالي و هى مطرّزة بأنواع النقوش و الخشب والسياج الطابوقي المشبّك ،تحيطها أعمدة العمارة ،أعمدة فارهة الطول و القامة كأنها أشجار نخيل شامخة،و أزقّة تربط السوق المركزي و قصر السلّة أي قصر الوفود في نهاية سوق عبدالحميد (المنسوب لشيخ عبدالحميد الشيح خزعل) بساحل نهركارون. وقصر السلّة هذا قد هدم القسم الأكبر منه و حوّلوه إلى محطّة باصات تابعة لشريكة النقل الجماعي لبلدية الأهوازقبل خمسةعشر عاما رغم تسجيله ضمن قائمة المباني الأثرية.
لا أخفيكم سرا” كلما مررت من هناك أشعر ّبإنقباض و ألم في قلبي و حسرة تضيّق صدري .
أنظر إلى فناء القصر حيث كانت فيه أشجار مثمرة و نخيل تتوسطه نافورة جميلة ،تعيدك مرغما” إلى زمن الأجداد ،واليوم أستبدل بخرابة ترمى فيها بعض النفايات من مخلفات السوق المزدحم الملتصق بالقصر و الغارق في الفقر و النسيان ، حيث يفترش البياعة المتجولة من النساء و الرجال و الشباب أبسطتهم لكسب لقمة العيش وسد جوعهم و فقرهم، لكل واحد منهم قصة حزينة لايسعني المجال أن أسردها هنا و أبوح بما يجرى هناك في كل صبح و نهار.
أتجول في الأزقّة الضيّقة و الدروب التي تعيدني إلى السوق و تربطني بساحل النهر و عمارة معين التجار التي كانت لها مكانتها أيام زمان عندما كانت ترسو جنبها السفن التجارية المحملة بالقطن والقمح والأقمشة و بضائع أخرى عند ساحل كارون ينفذ ما نقل على متنها من موانيء عدة كمدينة تستر و المحمرة و عبادان .
بنى هذا المبنى الجميل لمعين التجار لإدارة الشؤون التجارية و عمل التجار آنذاك.
من المباني الجميلة ايضا” كانت كنيسة شَبَان نيكو المتلاصقة بمشفى رجائي و في الشارع المقابل مدرسة الأرامنة التي كانت تحتضن الكثير من أبناء العوائل المسيحية و الأرمن ليتلقّوا المرحلة الإبتدائية فيها و كانوا يسكنون أطراف مدرستنا ،(ثانوية طالقاني)، مثل عائلة سركيسيان و ميكائليان و يعقوبيان وقدسمعت في ما بعد أنهم هاجروا مع عوائلهم الى خارج الإقليم و لم يتبقى منهم سوى البعض .
شارع ٢٤ كان يربط جسر السكك الحديدية المسمّى بجسر الأسود المبني سنة 1929.م بدوّار الشهداء و في امتداد هذا الشارع نحو الشمال يقع على جهة اليسارضريح علي أبن مهزيار الأهوازي الفقيه و المفسر والراوي الذي عاش في القرن الثالث الهجري و كان من أصحاب إمام الرضا عليه السلام.
في امتداد هذا الشارع حتى نهايته خلف جسرالأسود يقع حي العامري و السوق التقليدي المعروف فيه ،سوق مكتض و مزدحم بالمارة و يحتوي على محلات متنوعة لتلبية الحاجات اليومية كالخضار و الفواكة و اللحوم و بيع الأقمشة و محلات بيع الذهب و العطاطرة، ان هذا السوق كان و مازال أحد الأسواق الشعبية الذي يقصده الناس من شتى نقاط المدينة و لو أنه حاليا” أصبح من الأحياء المهمّشة من حيث الخدمات و البنى التحتية ، حاله كحال باقي الأحياء العربية.
يسكن هذا الحي عدة عوائل معروفة و كانوا يقطنون فيه إبناء من ديانة الصابئة أكثرهم لهم مهنة صياغة الذهب و المجوهرات ،لهذا الحي ذكريات كثيرة و سوف أسردها لاحقا” في اﻷجزاء التالية لمجموعة “بين أزقة الذاكرة و شوارع الأهواز” .
ولدت و نشأت في هذا الحي و تشكلت لدي أحلى ذكريات الطفولة و الشباب، حيث كان بيت جدي هناك و عشت فيه لمدة أربع سنوات و ثم أنتقلت عائلتنا الى حي الشعب(كوى ملت) في أقصى شمال المدينة الذي يبعد كيلومتران عن مطار الأهواز الدولي في قرب شريكة “سدكو” لتنقيب النفط .
في إتجاه آخر و في إمتداد شارع ٢٤، نحو الجسر الهلالي كانت مستشفى جندى سابور التابعة لجامعة العلوم الطبية في الأهواز و هي أول مستشفى بنيت في الأهواز و سميت جندي سابور تقديرا” لأول مدرسة طبية بنيت في الأهواز قبل الإسلام و سميّت تأريخيا” بهذا الأسم .
كنا كل يوم نذهب من حي الشعب، من أقصى منطقة في المدينة لثانويتنا بالحافلة التابعة لشريكةالنقل الجماعي العام و كانت توجد محطة الباصات في التسعينات حول دوّار الشهداء في قرب جسر الهلالي( الجسر الأبيض)، هذا الجسر الجميل، ذات الهلالين الفضيين، الرابط بين ضفتي نهر كارون، الذي يشق الأهواز شرقا” و غربا” ، بنى هذا الجسر في سنة1936 .م (١٣١٥.ش)على يد مهندسين شريكة ألمانية بمعية مجموعة من الشباب الأهوازيين و أبرزهم عبدالوهاب ابن الشيخ زاهد بن نبهان العامري و هو من خريجين جامعة بيروت.
كان ممرّنا الخاص في نهاية الأسبوع هو الرصيف المؤدي الى الحديقة المتواجدة خلف فندق فجر و على امتداد النهر تحت الجسر الهلالي و الى نهاية المدرج الأسمنتي جنب مطعم خيّام.
على يسارنا و بضعة أمتار من الفندق كانت حديقة عامة فيها بعض أشجار الليمون و البرتقال و النخيل خلفها كانت ثانوية نظام وفا للبنات و التي سميت في ما بعد الزهراء عليه السلام ، هذه الثانوية كانت من أشهر الثانويات في الأهواز ولها مكانتها العلمية الخاصة ، وكانت لها ولثانوية طالقاني و شريعتي و شهداء وأبوعلي الغيرحكومية(المتواجدة في قرب ثانوية طالقاني) ، الحصة الأكبر في قائمة الناجحين في إختبار دخول الجامعات في الفروع العلمية على مستوى الأهواز .
مقابل الحديقة المتلاصقة بثانوية الزهراء، كانت بناية سينما ساحل،هذه السينما العصرية بنيت في سنة 1939.م أي (١٣١٨.ش) ضمن سياسات الإندماج الثقافي آنذاك و سميت “ميهن” ،ثم بعد ثلاثون عاما” تم إعادة أعمارها و تجديد البناء وتغير إسمها الى “ساحل” ،بعد الثورة مرة أخرى تغير إسمها إلى ” صحراء ” و في نهاية سنة 1997.م إعادوا تسميتها الى “ساحل “.
كانت بنايتها ذو طابقين و لها صالتين، شتوية و صيفية و أجهزة صوتية حديثة ،كانت لها عدة مكيفات لتبريد الهواء و محل لبيع المأكولات كالذرة و رقائق البطاطس و المكسرات و العصائر.
كانت السينما جدا” مريحة و كراسيها جديدة تتطبق ، لها باب و مدرج لمدخلها و عند الخروج يفتح الباب الخلفي للسينما ، بناية السينما على قرب من دوار الشهداء و مطلة على شارع ٢٤ ،كانت تعرض الأفلام الإجتماعية و لها ساعات عرض خاصة للعوائل.
بسبب الإدارة التعسفية،لم أسمع بعد الثورة (1979.م) أنه قد عرض فيها او في دور السينما في الأهواز، أفلام عربية، ، الا قبل الثورة و لفترة جدا” وجيزة، سمعت أن في مدينة عبادان عرض عدد قليل من الأفلام الغنائية المصريّة .
بعد نهاية فترة الحرب العراقية الإيرانية و ما بين سنة1990م إلى سنة1994.م كان شىء من الهدوء يسود الأهواز مهما كانت الناس جدا” متعبة و كان قد بدأ إعادة إعمار المدن المتضررة من الحرب و الوضع الإقتصادي كان مزريا” و الإنسان الأهوازي كان يمر بمرحلة صعبة من الحياة و الأجواء كانت متوترة حيث كنا نتابع أخبار حرب الخليج الثانية و هذا ليس بمعنى إننا خرجنا من ضجيج الحرب و التوتر الذي كان يغمرنا بسبب إرهاصاتها المدمرة ،خاصة تلك المدن الحدودية التي كانت تتأثر بشكل مباشر بالأحداث و تلك الأيام التي ملأت سماء الأهواز بالدخان الأسود الناتج من حرق أبار النفط في الكويت .
كعادتنا كنا في نهاية اليوم الدراسي نتمشى برفقة زملائنا نحو الجسر الهلالي و نحن نسرد حكايات الصف و ما دار من كلام بيننا و بين المعلمين في ذلك اليوم، لم ننتبه لمضي الزمان و لهذه الفترة الذهبية من حياتنا التي مرت علينا كمر السحاب الا بعد مرور ثلاثة عقود من ذلك الزمن الجميل.
كنا نتجمهر مع زملائنا فوق جسر الهلالي و ننظر الى جمال نهر كارون و مياهه العذبة المتدفقة ،نلتقط بعض الأحيان الصورالتذكارية بكاميراتنا المتواضعة حيث كانت تطبع الصور على الورق الخاص و لم تكن مثل اليوم كاميرات رقمية و هواتف النقال ،حيث كانت الكاميرات التقليدية المسماة بكانون و يوشيكا و زنيت و هي أشهر الماركات للكاميرات المحترفة و العادية ذات العدسة الثابته و المتحركة و الفلش و شريط الفيلم المقسم على 12 و 24 و 36 صورة ،أشهرها كانت كداك و كونيكا و فوجي فيلم.
في الضفة الشرقية لنهر كارون و في بضعة أمتار من مدخل الجسرالهلالي يوجد دوار الشهداء الذي شيد قبل الثورة و كان قد نصب فيه تمثال ملك إيران “محمدرضا شاه” الذي تم كسره و إنزاله أبان إندلاع الثورة في الأهواز كما كسرت الثورة جبروت الإستبداد و أسقطت نظامه التوسعي الإستبدادي.
بعد الثورة إستبدلت بلدية الأهواز أسم الدوار بدوار الشهداء تقديرا” لشهداء الثورة الذين سقطوا فيها و أريقت دمائهم من أجلها،لكن مع الأسف لم تتغير أسامي المدن و لم تعد الى أصلها كما كانت قبل عقود و بقيت على التسمية المرتبطة بالحقبة البهلوية الا بعض الأحياء و الشوارع التي تغيرت بأسماء جديدة. ولم تستعد أسمائها الأصلية، التي زيفت و تغيرت من قبل النظام الملكي البايد في زمن رضا شاه و بمرسوم وزاري سنة 1936.م أي 1314 شمسي .
في الجهة الشرقية للدوار كان معرض لبيع الكتب يسمى “بين الملل” و كان ملتقانا الأسبوعي للتعرف على آخر إصدارات الكتب خاصة العلمية منها ،كانت هذه المكتبة تضم مجموعة زاخرة من الكتب التعليمية ومختلف الفروع العلمية والأدبية ، و كوني تلميذا” في الفرع العلمي و كنت أود الدخول لفرع الطب في الجامعة ، لذلك كنت أبتاع بعض الكتب التعليمية و في بعض الأحيان الكتب الأخرى المكتوبة باللغة الفارسية ، لم تكن الكتب العربية متوفرة في مكتبات الأهواز آنذاك الا القليل منها و كانت في الغالب كتب دينية و حوزوية أو بعض كتب الشعر لشعراء العرب المترجمة للفارسية كأشعار نزار قباني و إيليا ابو ماضي و محمود درويش.
كانت الكتب العربية شبه محظورة و لا تباع في المعارض .
في الجهة الغربية لدوار الشهداء كان يوجد محل لتحميض النغاتيو و طباعة الصور و كان مستحدثا” حيث استورد تقنية جديدة لطباعة الصور في ١٧ دقيقة آنذاك و كان يسمى هذا المحل “شمايل” ،كنا نطبع عنده صورنا الملتقطة.
كان المحل مزدحما” بالزبائن كونه في مركز المدينة و تلك المنطقة إيضا” كانت قريبة من الشاطئ و الجسر الهلالي و تعد من المناطق السياحية الجميلة ،لها منظرها الجميل و إطلالتها على نهر كارون.
الجدران و المباني و الشوارع و الأزقة كلها تحمل رائحة بلدي و موطني حيث النخيل على الأرصفة والبلابل فوق أغصان الأشجار تغرد و براعم الليمون و الأطرنج تزهر في الربيع و تتناثر في البيوت و الشوارع مع هبوب نسيم الهوى من شاطئ كارون .
لا تزال مدينة الأهواز تحتفظ بالكثير من الأماكن التأريخية و الجميلة و لولا التهميش و الإهمال كادت أن تكن أحدى أهم المواقع السياحية وكانت لتحتل مساحة على خارطة السياحة العالمية.