وحتى النهاية تكتبها صفاء حسين العجماوي
ضباب كثيف يغلف عقلها، كأنما يفصل بين خلايا مخها، كسد يعيق مرور السيال العصبي بينها. لا تحاول أن تخترقه، بل استسلمت له بلا أدنى مقاومة. ساعد على ذلك فقدانها للشغف، وأنطفاء روحها، حتى جسدها الذي تململ من وضعيته الجنينية، لن تعيره أي اهتمام.
أرتفع رنين هاتفها المحمول. مدت يدها بلا حماس لتعرف من المتصل، فإذا به صديق مقرب لها، تعتبره كأخ لها، لكنها ليست على نفس المكانة بالنسبة له، فهي صديقة جيدة، ومصدر دعم وآمان له فقط. ابتسمت ببساطة، وأجابته ببشاشة كعادتها، ليتسنى له أن يتحدث ويطلب ما يريد بكل أريحية، فإذا به يتلعثم مرتبكًا بمقدمة لم تعي منها حرفًا. صمتت للحظة، ثم سألته بهدوء: أتحدثني عنه؟
أجابها بخوف: لا تغضبي رجاءًا، ولكن يجب أن تعلمي أنه مريض بشدة، محتجز بمشفي العزل، بوحدة العناية المشددة.
هتفت بذعر: ماذا تقول؟ لماذا لم تخبرني بهذا قبل الآن؟ قول لي بربك أنني عالقة في كابوس مظلم، وأنه بخير حال.
رد عليها بأسف: لم يرد أن تفزعي لأجله. أثر أن تظني بأنه منشغل عنكِ.
قاطعته بحسم: خذني إليه. أين أنت؟
أرتبك وأجابها: لا أدري أن هذا هو الفعل الصحيح.
صرخت بعنف: هل تظن أني سأظل ببيتي، كأن شيئًا لم يكن؟
تمتم مؤيدًا، وأملي لها بعنوان المشفى، ووعدها أن ينتظرها هناك.
بعد ساعة أقتحمت مستشفى العزل، متوجهة إلى وحدة العناية المشددة، ومن ورائها آمن المشفى يحاول ثنيها عن عزمها، إلا أنها أصرت على الدخول ومقابلته. مما أضطرهم إلى أبلاغ المدير وكبير الأطباء المشرفين على الوحدة اللذان حاولا تغير نبيتها، ألا أنها قاومتهم وانتصرت لقرارها، فأمر المدير بتجهيزها ببذة العزل لتدخل عليه.
طرقت باب غرفته بطريقتها المعهودة، ففتح عينيه منتبهًا تراها هي أم هذه هلاوس الحمى، ثم فتحت الباب لتدخل بمفردها، أقتربت منه وهي تناديه كما أعتادت دومًا. ألتفت نحوها، وهو يجاهد ليرها بصورة واضحة. أسرعت الخطى، ووضعت كرسيًا جانب فراشه، وتأملته بقلق.
سألها بصوت صدأ من قلة الاستخدام، لشخص تائه بين مفعول دواء، وألم المرض: أخذه أنتِ؟
أجابته بابتسامة رأها في عينيها: أجل أنا.
قال بصوت ضعيف: كان يجب أن أعرف، أنه لن يحتمل كتم الأمر، وسيخبرك.
أقتربت أكثر حتى يرى عينيها الملهوفة عليه، وهي تقول بنبرة محبة معاتبة: كان يجب أن أعلم بمرضك منك منذ البداية.
ثم أعتدلت في جلستها، وتابعت: لنؤجل هذا النقاش لحين خروجنا من هذا المكان.
سألها بقلق: وهل ستبقين معي هنا؟
أجابته ببساطة: بالطبع، وهل تظن بأني جئت في زيارة؟
هتف بها بصوت مشروخ من التعب، وهو ينتفض خوفًا وغضبًا: هل جننتي ستصابين بالمرض؟ هذا ما لا أقبل به أبدًا.
قامت تعدل من وضعيته لتكن أكثر راحة، وربتت على كتفه مهدئة، وقالت له بحسم: سأبقى بجوارك إلى النهاية، ومهما أعترضت، فلن أبرح مكاني. وأن لم تنهي هذا الجدل الآن، سأنزع الغطاء الواقي عن وجهي ليصبح لي الحق في المكوث هنا.
صمت، وأشاح بوجهه عنها، فقالت له مستعطفة: أتطالبني بأن أرمي بقلبي بين أمواج القلق والخوف، ويتجاذبني الأمل واليأس، تشدني دوامات الأفكار السوداء، لأجن في غياب أي وسيلة أطمئنان.
نظر إليها وقد رق قلبه لأجلها، فأكملت: أعلم أنك تخشى عليَّ من الأصابة بالمرض، ولكنك لم تعرف ما يعني غيابك عني، فما بالك بتألم وحدك هنا، وأنا حبيسة ذاتي هناك.
همس لها: أحبك.
فبكت، فاعادها على مسامعها بصوت أعلى محملة بمشاعر عميقة حملها قلبه لها لسنوات. همست له معاتبة: لقد انتظرتها كثيرًا.
رد عليها بضعف: خشيت فقدك، وجرح كرامتي.
لم تتركه يكمل، فقد اندفع لسانها: غبي.
ضحك مؤيدًا، ثم سألها: ستبقين؟
ضحكت، وقالت: أجل وحتى النهاية.