“اكتب لأنك خلقت لهذا”
في الصباح؛ كان هاتفي الصامت يهتز باهتزازات متتالية مزعجة، توشي أن الفجر قد آن أوانه و أنه يجب الاستيقاظ… أنا معتاد على الصحو قبيل الفجر منذ خمس وثلاثون عامًا… تحديدًا حينما كنت في سن المراهقة. كان أبي يفرض علينا أنا و إخوتي الثلاثة أن نستيقظ لنذهب معه إلى المسجد، خاصة أنه كان إمام المسجد الكبير في قريتنا النائية.
صباح تلو صباح وأنا أعتاد الصحو، وأعتاد الضجر، حتى هنا في برلين اللعينة التي أتيتها قبل عقدين تقريبًا… تحديدًا مذ حصلت على شهادتي الجامعية… أنا ابن عطاء… هكذا سماني أبي… ولا أدري تحديدًا لماذا اختار لي اسمي هذا، غير أنه كان دومًا مذ تحسست خطواتي الأولي نحو مدرسة المركز الذي نقطن قرية فيه يناديني بالدكتور ابن عطاء. ليته كان حيًا حينما تخرجت من كلية الطب، فقد علمت أنه قد باع فدانه الذي كان يذهب إليه طليعة كل صبح ليشرف بنفسه على سقيه ورعايته ليكفل تعليمي وتعليم اخوتي… لم أكن أعلم أنه مات ضحية الديون التي تراكمت عليه ليجعل من ابنه عطاء الدين دكتور القرية… برلين بلدة تعج بالسرعة واللاإنسانية… شأنها شأن قلبي المعلق بقريتي النائية التي رحلت منها صغيرًا بعد وفاة أبي… تحديدًا بعدما انهلت بالسباب على شيخ القرية الجديد الذي عرفت عنه مجونه وفسقه… وقتها كنت وحيدًا فإخوتي انطلق كل منهما لبلدة أخري يبحث عن قوته ورزقه، وأمي قد ماتت قبل أبي بعامين، وبقيت وحيدًا أدافع شبح الصمت بالقراءة، وأدفع شرك الموت بالكتابة… ولما تخرجت من كلية الطب… بعت حلى أمي التي تركته لي لأقدمه هدية لمن أتزوجها… قالت أمي… يجب أن تتزوج بفتاة من البندر… فهن مرفهات الروح، جميلات الشكل، بهيات الطلعة. ولما كنت خجولًا وانطوائيًا عزفت عن النساء جميعًا… لم أجد عندي رغبة بهن… حتى هنا في برلين… أذكر أن شباب القرية الصغير كانوا يذهبون الى الترعة في اتقاد صارخ، وشهوة حارقة، ليشاهدوا سيدات القرية اللاتي يذهبن اليها، فيشمرن عن سيقانهن لملئ جرارهم و آنياتهم… مرة ذهبت الى هناك واشتعلت الرغبة بجسدي الصغير، ولم أجد بدًا إلا أن ألقي بجسدي في الماء ليهدئ روعي… ورغبتي… وهنا في برلين لم ينجح العري الصارخ أن يغريني كما فعلت سيقان نساء القرية… هنا أظنني قتلت الحياة بداخلي عنوة… ولم يبقى مني سوى شبح طفل يستيقظ كل فجر ليقوم اعوجاج طفولته بما اعتاده منذ نشأته…
لم تكن برلين كقريتنا النائية… فالحياة جادة جدًا بشكل مقيت، أبنية عالية تطارد السحب، ضوضاء سيارات الأجرة يبيد جمال السير، علاقات هشة، وعلامات موت كثيرة لم استطع هزيمتها في أعوامي العشرين… وددت لو أعود ويعود العمر إلى قريتنا لأتزوج فتاة منها، و أنجب طفلا أو اثنين، وأعود الى البيت لأستمتع بأحضان فتاة بضة من فتيات القرية الجميلات… أمي كانت رائقة الجمال، ماتت قبل أن تحتل وجهها التجاعيد، وكان ما يمتعها حقًا أن تجلس إلى الفرن الطيني لتخبز لنا، وتعد لي أنا وأخوتي طعامنا اليومي… حياة القرية كانت بسيطة جدًا… أما برلين أظنها قتلت حياتي منذ وطأتها… في عامي الأول كابدت كثيرًا… اشتغلت بائع جرائد وفي غسيل الصحون وبرعت في طلاء البيوت، وتهذيب الأشجار… ولم يبال أحد بأنني طبيب مصري ناجح… فنظرة الناس كانت تدل على أنني متسول آت من عالم فقير لا يمت لهم بصلة… ولحسن الحظ أو لسوء الظروف لم أستطع أن أعود إلى مصر ثانية… إذ أنني في عامي الأول أصبت بنوبة إحباط، وفقر مدقع… فلم أستطع أن أوفر ثمن تذكرة الإياب، ولا ممارسة الحياة… حتى سقطت سيدة تعاني نوبة صرع الى جواري… كنت أتوسد حديقة صغيرة لأدفع جوعي وبرودة الأجواء… وبسرعة استدعيت معلومات الإسعاف التي درستها في القاهرة وأسعفت السيدة، ورافقتها حتى أقرب مستشفى، وهناك تنبه الطبيب المختص بأن الشخص الذي أسعفها لابد وأن يكون طبيبًا ماهرًا حذقًا، فاستدعاني، وتبدلت الحياة من فقر إلى رفاهية… من توسد الحدائق والمنتزهات إلى بيت صغير بحديقة بديعة… من جوع إلى شبع، ولم يتبدل الموت الذي يعتريني بحياة جديدة.
عشرون عامًا وأنا هنا كغريب لا ينتمي الى شئ، لا حياة أشعر بها، ولا رغبة.
قالت لي صديقة بالأمس… أنها تود اكتشافي… انتبهت لمرماها حينما حاولت تكبيل جسدي بقبلة منها… نفرت منها هربًا بجسد مرتعد… وأنا لا أعرف سر هذا تماما كما لا أعرف سر اسمي…
اليوم قررت الرجوع… الطائرة التي هبطت في مطار القاهرة اخبرتني أنني وصلت لتوي… لا أدري كم ساعة مرت مذ استيقظت على اهتزاز هاتفي فجرًا وحتى هبطت قدمي الصغيرة أرض القاهرة…
القاهرة لا تختلف عن برلين كثيرًا… فيها رائحة من موت… ضوضاء تخنق الأجواء، ازدحام كبير، أبنية عالية تحاصر السحب، انفاق تشق بطن الأرض لتخرج حشودًا من البشر التائهين… فقط ثمة فرق واحد بين موتهما… أن الموت الذي يخيم على برلين… منظم.
ذهبت الى فندق قد أوصلني إليه سائق تاكسي قد لمح في عيني لمعة انبهار فتوهم أنني سائحًا مستقلًا بلا فوج ولا نظام ترفيهي، وسائح كهذا هو صيد وغنيمة لسائقي التاكسي… الذي ابتلع مني مائتي جنيه في عشر دقائق من القيادة.
في اليوم التالي وبعدما استيقظت فجرًا، عدت الي القرية… كانت ليلى وهذه الفتاة التي كانت تأتيني كل يوم لتقصص لي بغنج عن مصائب شيخ القرية الجديد ومجونه، قد تغيرت ملامحها كثيرًا حتى أنني فشلت في التعرف عليها، فقد ازداد وزنها، وبهت وجهها، وانطفأت ثورة جسدها الذي كنت ارغب لو انه يكون لي وحدي، اذكر انني لطالما وددت لو انها تترك الرقص وتتفرغ لي، غير انها كانت فراشة حائمة لا تحب سوي الطيران، وهذا كان سبب عزوفي عنها في شبابي. قالت لي بصرخة فرحة، ابن عطاء لقد عدت اخيرًا… والتغيرات التي ألمت بها منعتني ان ادرك انها ليلي في البدء، حتي عرفتني بنفسها. عشرون عامًا… تغيرت القرية خلالها كما تغير كل شئ، الحقول اندثرت، الترعة الصغيرة استبدلت بطريق اسفلتي وكباري تتجاوز الثلاثة… ومدرسة وحيدة كشبح يضفي المزيد من الموت الي المشهد..
وحده كان كما هو منزل الشيخ يسري؛ ابي. طيني قد نحلته الريح، لكنها لم تستطع ان تأخذ منه طفولته، بابه صدئ وضعيف، والي جواره بيت خالتنا رباب، كانت جارتنا وصديقة امي، وكانت بمثابة ام ثانية لي… حتي انني لما قررت السفر تركت لها مفاتيح البيت لعل يجتمع شمل اخوتي فيه ذات يوم… واشك ان هذا قد حدث… طرقت بابها ودخلت علي مهل فارتمت بجسدها علي ببكاء ونواح وفرحة…” لقد عدت اخيرًا” قالت لي. فابتسمت لها وانا اتعجب كيف لعشرين عاما الا تنسيها ملامح وجهي… بعد ساعات قضيتها معها وددت الرحيل… الا انها اقسمت الا ارحل قبل زيارة بيتنا، وادارت مفتاح الباب وادخلتني، طفلي الصغير لازال يتراقص في ارجائه، يقرأ ارث ابي من كتب، يلهو بفناء البيت الواسع، يجلس الي امي امام فرنها المشتعل… بكيت كثيرًا… وطلبت منها ان تصف لي قبر ابي، اذ ان القرية القديمة قد تبدلت طرقاتها وابادت ذكريات خطواتي التي دفعتها فيها… ذهبت الي قبر ابي وجدته يقرأ القران بصوته الرخيم، والي جواره امي تجلس كما اعتادا، ولما رأتني ابتسمت لي وقالت:” انتظرت طويلًا ان تأتيني بعروس تؤنس خطوك نحوي، وسعيك الي.” وقال ابي اما سئمت الموت، لقد تمنيت ان تكون طبيبًا لتهب الناس حياة لا ان تسلب منك حياة… اغمضت عيني الي امي وانا اعود طفلًا في يرتمي بحجرها الفسيح كما كون لا يسع حلمي. قلت لها هل ابني مكان البيت مشفى، فابتسمت لي وباركتني… وذهبت… وايقظتني ساعة الفجر واهتزاز هاتفي لينهي حلمًا جديدًا… ويخبرني ان برلين لا مكان فيها لاحلام سعيدة.