أيمن موسى يكتب
كارما
ــــــــــ
دمعت عيناها بعدما شعرت باليأس من محاولة تذكر ملامح أمها .
تذكرت عبارات أبيها المقتضبة عندما كانت تسأله عن أمها والتي تأتي دومًا مصحوبة بتجهم ملامحه وغضب لا تخطئه الأذن بنبرة صوته وهو يقول ألم أخبرك مرارًا وتكرارًا أنها ماتت لقد ماتت ماتت فلماذا الإصرار على طرح نفس السؤال وإنتظار إجابة مختلفة .
نعم هو محق بذلك فهى لم تمل من طرح نفس السؤال وهو لم يغير نفس الإجابة طوال السنوات الماضية لذلك فهى توقفت عن طرح ذلك السؤال ولكنها عجزت عن وأد تلك التساؤلات والتي ظلت تلح عليها برأسها مرارًا وتكرارًا في تساؤل وحيرة فلماذا لا توجد أي صورة بالمنزل تجمعها بوالدتها ؟ لماذا لا توجد حتى أية صور لوالدتها مع والدها ؟ حتى صور الزفاف وكأنها قد تبخرت تمامًا أو ربما كان إخفاؤها متعمدًا .
فتشت كثيرًا بجميع أرجاء المنزل ولكنها لم تجد أي صورة أو أثر قد يساعدها في تذكر والدتها .
لم يكن هناك أي شئ يربطها بوالدتها سوى ملامح مشوهة وصور باهتة تقبع بخيالها العاجز عن التعامل مع ذلك اليتم .
نعم هى يتيمة وما أسوأ ذلك الشعور خاصة عندما يكون أبويك كلاهما أو أحدهما على قيد الحياة ولا شئ يجمع بينكما فلا دفء المشاعر أو حضن يصبح كملاذ آمن عند الخطر .
ربما أمها ميتة ولكن كون أبيها على قيد الحياة فهو لا يجعل هناك أي فارق فهى يتيمة بكل ما تحمله الكلمة من ألم ومعاناة .
منذ الصغر وهى تتعامل مع أبيها ومربيتها العجوز والتي حاولت تعويضها حنان الأم المفقودة ولكن هيهات أن يحل محل الأم غيرها .
تعلقت ببصرها بذلك التقويم والذي يخبرها بأن الغد سيكتمل عقدها الثاني وقد حسمت أمرها انها ستضع حدًا لتلك المعاناة . ستتوسل لوالدها وترجوه أن يحدثها عن أمها ولماذا تم محو كل شئ يخصها من حياتهما ؟
عيد مولدها ليس تقليديًا كعادة أعياد الميلاد فهو كالعادة سيقتصر عليها وعلى أبيها والمربية وذلك بالطبع إن تذكر أبيها ذلك أو حضر فهى ممنوعة من الأصدقاء محظور عليها الإختلاط ببقية البشر وعندما تجرأت ذات يوم وسألت لماذا ؟
كانت الإجابة أننا بغابة مليئة بالذئاب والذين يتحينون الفرصة للإنقضاض على فريستهم وبالطبع فأنا تلك الفريسة التي يقصدها أبي .
لا أدري حقًا لماذا يعاملني أبي هكذا ! وما هى جريمتي التي يعاقبني عليها أو الذنب الذي إقترفته دون أن أدري ؟
نظرات أبي لي كانت تجلدني لذلك كنت أتحاشى النظر لعينيه مباشرة فليس هناك أسوأ من تلك النظرات المملؤة بالإتهام والجرم مجهول رغم أنني وببعض الأحيان أشعر بحبه لي وبحنان جارف نحوي سرعان ما يزول عندما يقترب مني ويتأمل ملامحي.
أتى أبي وكالعادة لم يتذكر يوم مولدي وعندما ذكرته بذلك إعتذر بإقتضاب على وعد بإحضار الهدية التي أريدها بالغد .
أخذت نفسًا عميقًا وزفرت بشدة قبل أن أتوجه نحوه وأنا أسأله بتوسل أن يحدثي عن والدتي وانني يحق لي أن أعرف مصيرها وووو…
وقبل أن أنهي عبارتي وجدت أبي يحدجني بنظراته الغاضبة ليلقي علي تلك العبارة المقتضبة بأنها ميتة .
لم تعد تلك العبارة تروي ظمأي فعلا صوتي بالصراخ وأنا أتوسل إليه بأن يخبرني ولا أدري متى أو كيف واتتني الجرأة لأقول له أنه ظالم وأناني وأنه لا يحب سوى نفسه وأنه… ..
لم تكتمل عبارتي ولكنني شعرت بصفعة شديدة على وجهي بينما علا صراخ أبي هذه المرة وهو يقول بتحدي هل تريدنني أن أخبرك عنها ؟
إن كانت هذه رغبتك فسأخبرك بذلك نعم سأخبرك عن ذلك السر الذي أخفيته عنك طوال هذه السنوات سأخبرك لماذا تركت أهلي وبلدتي وعشت وحيدًا لأجنبك ما تلوكه الألسنة ولأبتعد عن نظرات الشفقة والسخرية سأخبرك أن أمك خائنة نعم خائنة تخلت عني وعنك ولم تتحمل الفقر معي فباعت نفسها لأول رجل قدم لها المال لتهرب وتغادر تاركة خلفها طفلة لم تتعدى العامين ورجل مغدور في كرامته وشرفه.
تغيرت ملامحه لتكتسي بالقسوة وهو يقول في غل وكراهية وهل تعلمي أنني من وقتها أقوم بجمع المال ولا يهمني أي شئ بهذه الحياة إلا الثراء .
صمت لبرهة ربما ليلتقط أنفاسه الثائرة قبل أن يقول وسط سعاله وهل تعلمين أيضًا أنك تذكرييني بها كلما نظرت إلى ملامحك ؟
نعم أنت تشبهينها في كل شئ وأخشى أن…… .
صمت ولم يكمل عبارته ولكنها أدركت أنه يخشى أنها ربما تحمل جينات الخيانة مثلها .
صعد أبيها إلى غرفته وهو يلهث لا تدري إن كان ذلك من شدة الغضب أم كونه مريض كلى يغسل ثلاث مرات بالأسبوع .
الأن فقط عرفت لماذا تم محو كل أثر لأمها كما عرفت أيضًا تهمتها ونظرات الشك بعيني أبيها فهو يحاسبها على ذنب إقترفته أمها منذ زمن بعيد ولكن هل فكر ولو لمرة واحدة أنها هى الضحية وليس هو ؟ نعم فهى ضحيتهما سويًا .
كما أدركت الأن فقط حرص والدها على جمع المال بكل الطرق ليصبح ثريًا وها هو قد أصبح ثريًا فهل تراه حقق إنتقامه هكذا وحصل على الراحة والسلام؟
لم تنم ليلتها وهى تصارع أفكارها في محاولة منها لجمع شتات نفسها .
ترى من ضحية من ؟
هل كانت والدتها ضحية الفقر ؟
أم أن والدها ضحية أمها ؟
وماذا عنها هى أليست هى ضحيتهم معًا ؟
لا تدري لماذا عادت بذاكرتها في هذه اللحظة إلى ذلك الشاب المستهتر من الجامعة والذي حاول مرارًا التقرب منها وعندما فشل بذلك أخبرها أمام الجميع أنها تدعي الفضيلة وأن الجميع يعلم أن والدها عربيد نساء وأنه كل يوم مع إمرأة مختلفة وأن النساء من حوله كالجواري .
هل صدق ذلك الشاب فيما قاله؟
أتراه ينتقم من النساء بسبب أمها فيقوم بشراءهم وإذلالهم ؟
كشلال منهمر سالت دموعها وهى تحدث نفسها قائلة هل حقًا هى نتاج هذه الأسرة ؟
هل هى إبنة زوجة خائنة وأب قاسي فقد كل معاني الرحمة حتى لإبنته؟ رجل ليس له هدف بالحياة إلا جمع المال بكل الطرق لإنفاقه على إذلال النساء في صورة أمها ليتشفى ويشعر بالرضى ؟
كيف تلاشت تلك الصور لأمها تلك الصور التي رسمتها لها بخيالها من الطهر والعفاف بل كيف تهاوى ذلك المثال للأب والذي وبرغم عدم فهمها لما يدور من حولها كانت تلتمس له المبررات .
ليتها لم تسأل عن أمها ليتها ظلت ميتة بعقلها حية في خيالها بل ليت هذا الأب العاجز عن تجاوز عقدة الخيانة لم يكن أبيها .
في هذه اللحظات قررت أنها ستغادر هذا العالم الذي تم فرضه عليها وتغادر هذا السياج لتكتشف الحياة التي ظلت تخشاها منذ الولادة… .
ذات يوم بحثت عن معنى إسمها الغريب { كارما } وكانت النتيجة أنه يعني عاقبة فعل الإنسان من خير أو شر فما يفعله الإنسان بالدنيا سيرتد عليه ولو بعد حين .
لا تدري كيف مرت عليها الساعات ولكنها سمعت والدها وهو يتحدث قرب غرفتها عبر الهاتف وهو يقول أنه يريد أن يستريح من هذا الألم بسبب غسيل الكلى وأنه سيدفع أي مقابل تطلبه المستشفى للحصول على كلى متوافقة مع أنسجة جسده لزرعها له ليتخلص من الألام المبرحة التي يشعر بها مع كل جلسة للغسيل .
كم تمنت لو أنها شعرت بتلك المشاعر الأبوية لتمنحه جزء من جسدها عساه يرتاح من هذا الألم ولكنها تعلم أنه أصبح يحبذ شراء كل شئ بالمال .
ما أن غادر والدها وحل الظلام حتى ارتدت أجمل ثيابها وغادرت بعد أن أخبرت المربية بذهابها لصديقتها .
غادرت وهى لا تلوي على شئ لتقودها قدميها بالنهاية إلى كوفي شوب كانت تراه في طريق عودتها من الجامعة.
بعناية إختارت مائدة بعيدة بركن قصي لتشعر بالهدوء والعزلة ومن خلف زجاج نظارتها جلست في صمت تراجع شريط حياتها منذ طفولتها .
كيف مرت كل هذه السنوات بلا أقارب بلا أهل أو أصدقاء ؟
هل إعتادت عزلتها ؟
كم تمنت لو أن لها أخت تشاركها همها أو صديقة تفضفض معها .
إنسابت بعض دموعها بلا وعي منها وهى تردد بسخرية ليتني أحظى بغريب يستمع لي دون أن يحاورني فقط يستمع لي نعم أنا بحاجة لأتحدث فقط أتحدث دون أن يقاطعني أحد فربما يخفت هذا الضجيج داخل رأسي وتهدأ روحي…
وقبل أن تسترسل بافكارها إنتبهت على صوت أحدهم وهو يقول بصوت خفيض هل يمكنني محادثتك لدقائق ؟
بصوت متهدج يعتريه التوتر قالت هل تحدثني أنا ؟
نظر الشاب من حوله وهو يقول مبتسمًا وهل هناك سواك بهذا الركن الهادئ أردف يقول مازحًا كما أنني رددت طلبي هذا ثلاث مرات على الأقل وأنت شاردة الذهن .
تساءلت محدثة نفسها أتراه قرأ أفكاري للبحث عن غريب يستمع لي ؟
أنستي أنستي هل… ..
لم يكمل عبارته لتفاجئه بقولها نعم تفضل يمكنك الجلوس .
حدثت نفسها قائلة ما الضرر من ذلك فهو لا يعرفني وبعد قليل سيغادر وكأنه لم يكن .
عادت من شرودها على صوته وهو يقول لا تظني أنني متطفل ولكنني شعرت بشئ ما يجذبني نحوك فإن كنتي تنتظرين أحدهم أو أن وجودي يزعجك فأنا سأنسحب وأغادر بهدوء.
أجابته بهدوء لا بأس يمكنك الجلوس فأنا سأغادر بعد قليل .
هو; ما سر هذا الحزن بعينيك؟
صمتت وبرأسها ضجيج لا ينتهي وصراع محتدم ما بين رغبتها بالحديث ولو لغريب عابر وبين خجلها وخوفها من الغرباء.
مرت الثواني ثقيلة قبل أن تقول بألم أنا وحيدة بهذه الحياة ويتيمة ولا أحد يفتقدني حتى وإن مت و… . لم يدعها تكمل عبارتها ليقاطعها بقوله لتهدأي أولًا أما أنا فسأحضر لك كوب من القهوة الخاصة بي وهى ذات مذاق لا يُقاوم .
إبتسامة باهتة على شفتيها كانت كفيلة بأن يذهب ليعود بعد دقائق وبين يديه كوبين من القهوة وضعهما على المائدة بشكل مسرحي وهو يقول تناولي قهوتك فما زال سؤالي قائمًا ليقول بنبرة هادئة ما سر الحزن بعينيك؟
رشفات متتابعة من فنجان قهوتها لتشعر برعشة يديها ودوار يعتري رأسها وصور ضبابية متداخلة وهى تحاول النهوض لتفشل بذلك فما كان من الشاب إلا أن يسندها على كتفه وهو يقول سيارتي بالأسفل سأقوم بإيصالك إلى منزلك .
في وقت متأخر من الليل يتلقى والد كارما إتصال من المشفى الإستثماري ليخبرونه أنهم وجدوا ما يبحثون عنه .
بلهفة وسعادة سألهم إن كانوا قد تيقنوا من ذلك لتأتيه الإجابة بأن كل التحاليل والأنسجة متوافقة وأنهم بإنتظاره على وجه السرعة لإجراء عملية الزرع .
إستقل سيارته وطلب من السائق التوجه للمشفى مباشرة أثناء ذلك حاول الإتصال بكارما مرارًا ليأتيه الرد بأن الهاتف مغلق بالنهاية إتصل بهاتف المنزل لترد عليه المربية بصوت خائف ومتوتر وما أن سألها عن كارما حتى أجابته أنها ذهبت لصديقتها ولم تعد للأن.
إنتابته ثورة غاضبة وهو يصرخ ويتوعد من ثم أغلق الهاتف ليقوم بالإتصال بمنزل صديقتها الوحيدة والتي أخبرته بأنها لم تراها مطلقًا .
مشاعر متضاربة ما بين الغضب والقلق وسعادته لزرع كلى جديدة تخلصه من ألمه ومعاناته .
ما أن وصل للمشفى حتى إلتقى بذلك السمسار الذي أحضر الكلى ليهنئه قائلًا أخيرًا وجدت ضالتك .
الرجل بتساؤل ومن المتبرع وكم يريد ؟
السمسار وهو يقترب منه هامسًا بأذنه إنها فتاة ولكنها ليست متبرعة ونحن سنأخذ ما نريد وتذهب لحال سببلها .
الرجل بغضب ولكنها قد تسبب لنا المشاكل وربما يتوجه أهلها إلى القضاء .
السمسار بثقه لا تقلق من هذا فهى يتيمة ولا أهل لها يسألون عليها وقد تأكدت أنها وحيدة .
الرجل لا لا لن أقبل بهذا أخبرتك أنني أريد متبرع وسأعطيه ما يريد من المال.
السمسار بخبث لا تأخذك بها الشفقة فهى ليست سوى فتاة ليل تم إصتيادها من الشارع .
ما أن سمع ذلك حتى شعر بالغضب والكراهية وهو يقول إذن فهى ممن باعوا أنفسهم للشيطان وهى تستحق الموت ثم أردف قائلًا إذن لا داعي لإضاعة الوقت .
ذهب لإجراء الفحوصات للتأكد من وضعه الصحي وضبط الضغط والسكر والتأكد من سلامة قلبه واثناء ذلك راودتة رغبة شديدة في رؤية تلك المرأة عديمة الشرف والتي سيأخذ منها كليتها عنوة وفي قرارة نفسه يشعر بالرغبة في موتها لتطهير الحياة من أمثالها .
سأل الطبيب عن المرأة صاحبة الكلى فأخبره أنهم يعدونها بغرفة العمليات لإستئصال الكلى فطلب وألح أن يراها .
حاول الطيب منعه من ذلك ولكن رغبته بالتشفي من كل إمرأة كانت تغلب على مشاعره ليتوجها مباشرة إلى غرفة الفتاة والتي كانت فاقدة للوعي بعد تخديرها .
أشار الطبيب نحو السرير وهو يقول إنها هناك .
كانت رأس الفتاة بالإتجاه الأخر لهما نظر لثواني وهو يقول تستحقين أكثر من الموت .
هم بالمغادرة ولكنه وبحركة مباغتة دلف للداخل ليقترب من الفتاة المسجاة على الفراش وهو يقول بحنق وغضب أيتها الخائنة أتراك خنت زوجك أم أبويكي أم من ؟ وبحركة مفاجئة حرك رأسها ناحيته وهو يقول بحدة أخبريني أخبريني وما أن فعل ذلك حتى صعقته المفاجأة وشعر بالإختناق حتى كادت الأرض تميد به بينما إنهمرت دموعه وسرت الرعشة بجسده وتملكت بكل أوصاله ليصرخ بكل ما أوتي من قوة
كارما كارما….
تمت
أيمن موسى
أيمن موسى يكتب كارما
