جـراحـي يكتب – الـزَنَـاغِـمَـهْ –
.
في درس المساء ما بين المغرب و العشاء و في مسجد قريتنا القديم، اعتاد الشيخ أن يحكي لنا نادرة من نوادره الكلاسيكية التي لا يمكن أن تفتر من تكرارها مهما كان حالك و مهما كان مزاجك.
فـللشيخ طريقة آسرة و نبرة قوية متغيرة الترددات يستطيع بها أن يكرر نفس الموضوع لمئات المرات دون ملل أو حتى دون خشية الشعور بالملل.
كان الشيخ ذا سمعة طيبة و على علم واسع، لم يكتف بإطلاعه و قراءاته الدينية و قراءاته في الشأن المجتمعي ، بل ذهب لأبعد من ذلك .. حيث أتم دراسته الجامعية في وقت كان الحاصل فيه على شهادة الإعدادية يستطيع أن يكون موظفا أو حتى معلما في بعض المحافظات النائية و لم يكتف بذلك، كذلك حصل على درجة علمية بعد تخرجه في كلية أصول الدين جامعة الأزهر و لم يكن ذلك مبلغ طموحه بل تستطيع أن تقرأ له مؤلفاته في الشأن الدعوي و كتب الرقائق و مؤلفات عن الحياة الاجتماعية للمسلم. و لكن رغم كل ذلك كان الشيخ يحب المنبر و يحب كونه خطيبا و داع إلي الله من فوق منبره و لذلك كانت خطبة الجمعة و دروس المساء أهم عنده من الحصول على درجة الأستاذية أو التدريس في الجامعة.
كانت الألفاظ الفصيحة تنساب من فمه عذبة رقراقة توشي بمعانيها ، تنساب كأنها مياه رقراقة في جدول ماء رائق عذب.
يرفع و ينصب و يجزم و يضيف و يحذف و هو فوق منبره و أمامه أكثر من ألف مُصلٍ. لم يحدث أن نصب مرفوعا أو تردد في حذف حرف العلة إن راق له ذلك. في نفس الوقت الذي يفعل فيه كل هذا كانت خطبته يفهمها الجميع. تتحول لها العقول و القلوب إلي آذان.
فـكل خطبة بها فكره، و كل فكره تعالج مشكلة تمس حياة الإنسان المسلم و كل مشكلة يضرب لها أمثالا من واقع الحياة الآنية و مع كل مثال يوشك صاحبه من المصلين أن يرفع يده و يقول أنا أفعل ذلك، و لكن يعاجله الشيخ بوضع الحلول، و يقدم أصل المشكلة، كيف و من أين بدأت ، فيدرك المستمع الحل وحده، و يظهر ذلك جليا على وجوههم و صوت ارتياح أنفاسهم إن أدركوا، فيبتسم الشيخ!! و هنــا يحين وقت الموعظة الضاحكة …
فكاهة يسوقها الشيخ إلى الحاضرين بها عبرة و عظة و درس مستفاد و من بين كل هذه الدروس و المواقف الباسمة التي أثرت في حياتي هنالك تلك الطرفة… يحكي لنا الشيخ فيقول:
كان فيما مضى شيخ الزاوية يجلس في درس المساء في قرية بعيدة عن هنا يلقي درسه المعتاد و حوله أربعة نفر من أهل القرية البسطاء الذين يمتهنون الزراعة و تربية الماشية. يستمعون له في اعجاب و يهتزون لكلامه في طرب. فجلست بينهم. و كان ذلكم الشيخ ممسكا بكتاب قديم متهالك يبدو أنه كتيب صغير مثل كتب الصفوف الأولى في المدارس الإلزامية و كان يقرأ بحماس و يشرح ما يقرأ للبسطاء ممن جلسوا حوله في انتظار صلاة العشاء, و فجأة توقف لثوان .. ثم مد إصبعه إلي سطر معين في الكتيب الذي يحمله بكف و يمسك مكبر الصوت بكفه الآخر, ثم اعتدل في جلسته, ثم أخذ نفسا عميقا, يبدو كأنه رأي شيئا يستحق كل ذلك. و لذلك اعتدل الجالسون أيضا و لمعت أعينهم في انتظار ما سيقول وما يتلوه عليهم .. و ها هو يقول :
” الـزَنَـاغِـمَـه , الـرَبَـاهِـمَـه , واحد و خمسين (آه) .. واحد و خمسين .. واحد و خمسين .. منهما ”
هكذا نطقها و هكذا سمعناها و قد قال ذلك بتأثر شديد كأنه توصل لمعنى الحروف المتقطعة في القرآن الكريم. فإذا بالحاضرين يطربون و لقد قال أحدهم : ” الله .. يا سلام , كمان مره و النبي يا شيخ.”
و هنا قررت أن أعرف معنى ما يقول , فلم أفهم شيئا على الإطلاق, لعل ذلك عِلم ما أو ذِكر ما لا أعمله , ففوق كل ذي علم عليم!
فطلبت منه الكتاب و عندما نظرت إلى السطر المقروء وجدت ما يلي :
” الـزنـا غـم , الـربـا هـم , اه .. اه .. اه .. منهما ” هكذا بدون علامات تشكيل على الحروف و بدون همزات على الألف في لفظة ” آه ” .. و قد قرأها الشيخ كما قرأها.
انتهت الفكاهة .
هنا أترك الشيخان و أعود إلي نفسي التي تواجهني بنفس السؤال الأبدي كلما سمعت هذه الطرفة أو تذكرتها.
الجملة نفس الجملة, في نفس الكتاب, من نفس المصدر , مضمونها واحد, حروفها واحدة, و هذا شيخ يصعد المنبر و ذاك شيخ يصعد المنبر, لكن اختلاف القارئ جعلها مختلفة, قرأها الشيخ العالم الدارس المتبحر , فخرجت من فمه حكمة و عظة و تعلم المتلقي أن ” الزِنا غَـمٌ و الرِبَـا هَـمٌ , آه آه آه منهما “. و قرأها الآخر فصارت طلسما بلا معنى و بلا هدف و بلا تأثير إيجابي على أحد , بل أحدثت ارتباكاً عند من يملك قبسا ضعيفا من تفكير يرجو ألا يخبو , فأصبحت عند المتلقي ” الزناغمه و الرباهمه 51..51..51.. منهما ”
و السؤال هو : ماذا نقصد بتجديد الخطاب الديني؟ هل نقصد فهما جديدا للنصوص الأصلية ! أم هدم الثوابت و تغيير الأصول !
و إن كان المقصود هو تحديث الفهم , فممن نأخذ العلم و من يتصدر المشهد!
النصوص عندنا محققة و لا غبار عليها و لكن الخوف كله من هؤلاء الذين يتصدون لقرائتها. فهل نأخذ الدين على شيوخ علماء متخصصين أمثال الشعراوي و عبدالحليم محمود و الغزالي و من دعاة المنابر مثل الشيخ الأسطوري عبدالحميد كشك … أم نترك الفضائيات و قنوات الإعلام لأمثال بن العدوي و ابن الحويني و الوهابيين أم نتعلم من أي شخص اعتلى منبر وزارة الأوقاف و في يده ورقة صغيرة يقرأ منها نشرة الوزارة الإسبوعية و يقدم رؤيتها السياسية !
أم أن القضية أبعد من ذلك بكثير و أن هناك شخص ما يمسك خيوط اللعبة بجميع أطرافها و يرى أن النص الأصلي لن يحقق له ما يرنوه من طاعة عمياء و انصياع تام. و أن كل ما نقوله و نقدم له و نضع له حلول، لا يمثل له أي أهمية و أن هذا الرجل اتخذ قرارا ما مسبقا و هو ماض في تنفيذه بجعل منارة الإسلام الصحيح الوحيدة المتبقية في العالم نسخة مصغرة من تركيا العلمانية التي ترتدي خمارا علي جسد عارٍ و تتدين تدين زائف هو للكفر أقرب منه للإيمان، و أنه من مصلحة هذا الذي يحرك الأمور أن نقول جميعا و أنْ نسمع جميعا أنَّ ….
” الـزَنَـاغِـمَـه , الـرَبَـاهِـمَـه , واحد و خمسين (اه) .. واحد و خمسين (اه).. واحد و خمسين (اه) .. منهما “