الكاتب أيمن موسى يكتب المشرحة {2}


أيمن موسى يكتب المشرحة {2}
ــــــــــــــــــــــــــ

لا أدري كيف تحول هذا الكون الشاسع إلى ذلك الحيز الضيق، بل كيف إستطاع خيالي إختزال هذا الكون الفسيح بتلك المشرحة.
هل من الممكن اختزال كل شيء بشيء واحد؟
لم يكن أمامي سوى قتل الملل حتى لا يقتلني الخوف.
فتحت الهاتف ووضعت سورة يوسف بصوت الشيخ (ماهر المعيقلي)، والذي أعشقه بلا حدود، ربما تهدأ روحي المضطربة ولو قليلًا.
سؤال مفاجئ قفز إلى ذهني بغتة وهو: هل أنا جبان؟
هل ما أشعر به الآن خوفاً غريزياً وطبيعياً أم مبالغ فيه قد يصل حد الجبن؟
لم أجد إجابة واضحة وصريحة لسؤالي، ولكنني وجدت مبررًا لخوفي وانفعالاتي متعللًا بأنها ليلتي الأولى بهذا المكان المخيف بالنسبة للجميع وليس لي وحدي.
نعم كنت أحتاج وبشدة إلى مبرر قوي حتى لا أفقد رباطة جأشي واحترامي لذاتي.
نظرت لساعتي والتي كانت تشير عقاربها إلى منتصف الليل إلا قليلاً.
ازدادت برودة الطقس مما جعلني أشعر أن أوصالي وأطرافي كادا يتجمدان من برودة الجو وذلك الصقيع.
هنا طرأت لي فكرة مباغتة ظننتها صائبة ألا وهى الدخول إلى المشرحة وإحضار تلك البطانية من فوق الفراش والعودة مرة أخرى حيث أجلس بالخارج.
دقائق مملة ورتيبة وثقيلة مرت عليّ وأنا في حالة من الصراع بيني وبين نفسي.
كان الظلام يحيط بي من كل جانب إلا من ضوء القمر، والذي يأتي على استحياء بضوءه الخافت، ليجعل لكل شئ على الأرض ظلاً يتشكل حسب نوعه كالأشجار والمباني، ناهيكم عن صوت نقيق الضفادع والذي يأتي من باحة المستشفى المقامة بجوار تلك الترعة، والتي تنمو عليها بعض الحشائش والنباتات، مما جعلها مرتعاً للحشرات والزواحف، وبعض الأصوات تتداخل لتعطي مزيجاً من الفحيح والطنين، لا أبالغ إنْ قلت أنّ الأمر أصبح شبيهًا بسيمفونية مرعبة صوتاً وصورةً.
لا أدري لماذا يبدو كل شيء هذه الليلة استثنائي، حتى أنني ظننت أنني بكابوس سأفيق منه قريباً. وكم تمنيت هذا حقاً، وما عزز هذا التصور بخيالي نباح الكلاب الحاد والمتواصل، حتى أنني ظننت أنّ الكلاب تحاصرني، بل وتراقبني بانتظار اللحظة الفارقة والحاسمة للهجوم والانقضاض على جسدي، ولكن سرعان ما نفضت ذلك الهاجس عن تفكيري حتى لا أجن أو أفقد عقلي.
دقت الساعة الثانية عشرة ليلاً، ومعها أعلن الهاتف عن قرب نفاذ البطارية، وكان هذا ما ينقصني بهذا الوضع المزري، لأفقد كل مقومات الطمأنينة.
أغلقت الهاتف لأحتفظ بما تبقى من شحن بداخله لاستعماله وقت اللزوم.
في غضون ذلك كنت قد حسمت أمري أنه مما لابد منه ولا مناص أو مفر عنه دخولي بسرعة لأجلب الغطاء، ليعينني على هذا الشتاء القارص، وليعيد لأطرافي الدفء المفقود.
تقدمت للأمام بخطوات متثاقلة شاخصاً ببصري نحو الباب الخارجي، وفتحت الباب ولم أَنْسَ وضع ذلك الحجر من خلفه من الداخل ليظل مفتوحاً لحين تنفيذ المهمة، ومن ثَم عودتي من داخل غرفة الثلاجة.
نظرت للخلف، وهناك ألف هاتف وهاتف يدعونني ويلحون علي للعودة من حيث أتيت.
حدثت نفسي قائلاً وكأنني أوبخها: ما بك يا رجل؟ منذ متى كنت بهذا الجبن؟ ألا تخجل من نفسك؟
منذ متى وأنت تخشى الموت؟ بل ومنذ متى تخشى الأموات؟
ألا لعنة الله على الشيطان الذي تكفل بالإجابة عن سؤالي بأن عرض على عقلي وخيالي تلك المناظر البشعة، والتي مرت علي من قبل للقتلى والموتى من خلال حوادث الطريق أو حتى الحرائق.
حركت رأسي يميناً ويساراً، وكأنني أمحو هذه الصور عن رأسي، متمتماً بسورة الناس.
تشجعت وتقدمت أكثر حيث أصبح لا يفصلني عن باب المشرحة سوى أمتار قليلة.
ما زلت أردد سورة الناس وأخذت أرددها وأكررها كلما انتهيت منها.
(الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) أخذت أكررها مرات عدة حتى وصلت أخيراً لمقبض غرفة المشرحة والذي أدرته بحذر ممزوج بالتوجس والخوف، ومن ثم دلفت للداخل بسرعة وحسم، لأقطع على نفسي خط العودة.
كانت غرفة الهاتف على يميني بداخلها الفراش والغطاء، وعلى يساري طاولة التشريح بنهايتها ثلاثة مقاعد، وكم حمدت الله أنها فارغة ولا يوجد عليها أي جثث للتشريح بهذا اليوم.
كانت ثلاجة الموتي على يميني بعد غرفة الهاتف مباشرة، وبها الكثير من الأدراج، وكل درج منها من المفترض أن يحتوي على جثة واحدة.
كان الصمت والهدوء يغلفان المكان، مما أضفى عليه الكثير من المهابة والخوف والرهبة.
تقدمت بهدوء نحو غرفة الهاتف، ومددت يدي لأتناول الغطاء بهدوء وروية، وما كدت أفعل حتى سمعت ضجيج وصخب يأتيان من الخارج ليقطعا ذلك الصمت، ولينسفا هذا الهدوء، والذي بدا وكأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.
كان مصدر الصوت والضجيج يأتي من الباب الخارجي حيث وضعت الحجر خلفه، وأول ما تبادر لذهني هو أنّ الرياح والهواء هما سبب ذلك، وقد ظننت أنهما حركا الباب من مكانه، ليصدر عنه ذلك الصليل، مما تسبب بهذا الضجيج.
خرجت من غرفة الهاتف وتقدمت نحو باب غرفة الثلاجة لأرى ما يحدث، وما كدت أفعل حتى تسمرت قدماي، وأصاب الشلل كل أطرافي وحواسي، حتى فقدت النطق للحظات، فمن حيث أقف بمكاني وعلى بعد عدة أمتار وعلى الباب الخارجي من حيث أتيت كان يقف حيوان ضخم، لم أرَ له مثيلاً بحياتي من قبل، حتى أنني لم أتبين إن كان ذئباً أو كلباً ضخماً.
كان جسده الضخم يسد مدخل الباب بالكامل، وكانت عيناه الحمراوتان اللتان تصوبان نظراتهما نحوي بينما زمجرته ولعابه الذين يسيلان من بين شفتيه كفيلين بإصابتي بصدمة عصبية تيبست على إثرها كل أطرافي.
لم يستمر ذلك سوى لثوانٍ، لأستعيد تفكيري.
الآن فقط أدركت هذا المأزق الذي أصبحت فيه، وشعرت بخطورة موقفي، فثلاجة الموتى خلفي وذلك الكائن المتوحش أمامي.
وقبل أن أجد مخرجاً لي من تلك الورطة، كان ذلك الحيوان يقطع الأمتار قفزاً وبسرعة شديدة، متوجهاً نحوي، وعيناه تحدقان بعيني مباشرة وهو بطريقه لينقض علي، وبحركة غريزية، وسرعة استجابة لم أكن أظن يوماً أنني أمتلكها، وبفضل ما تدفق لجسدي من أدرينالين، عدت للخلف وأغلقت الباب من خلفي بقوة وعنف، لأشعر باصطدام هذا الوحش بالباب من الخارج بقوة وعنف، بينما صوت أنينه يخترق أذني، وأنا ما زلت تحت تأثير الصدمة.
كان الرعب والخوف والهلع يسيطرون على كل حواسي مما حدث للتو.
تراجعت للخلف بحركة لا إرادية، بينما بصري مازال معلقًا بالباب، لأتوقف بمنتصف الغرفة تمامًا.
ما إن هدأت أنفاسي، واستعدت بعض أعصابي، حتى تجولت ببصري لأتفقد المكان من حولي، تعلقت عيناي بثلاجة الموتى، بينما ظل عقلي خارجها يفكر بذلك الخطر الجاثم أمام الباب.
نظرت لساعتي، والتي كانت تقترب من الواحدة صباحًا، مما يعني أنه مازال يتبقى أمامي سبع ساعات كاملة أقضيها بجوار ثلاجة الموتى وباب ضعيف متهالك يفصلني عن وحش مازال يجثم أمامه يريد افتراسي.
مرة أخرى نظرت لثلاجة الموتى متخيلًا الجثث بداخلها، متسائلًا: هل لدي القدرة للبقاء بجوارهم؟
ترى هل يمكنني الصمود للصباح؟

يتبع

الكاتب أيمن موسى

 

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.