المشرحة {4 }
ـــــــــــــــــــــــــ
اسمي عماد
لا أختلف كثيرًا عن الكثيرين منكم، فأنا من ترك الزمن آثاره على وجهي، ونحتت الهموم أوكارها على ملامحي حتى أصبحت كهلاً وأنا ما زلت بنهاية العقد الثالث من عمري.
كيف أتيت إلى هنا؟
لماذا لم أعترض على نقلي لهذا المكان؟ هل أتيت إلى هنا طواعية لأثبت لنفسي شيء ما؟
ولكن كيف أقع بهذا الخطأ وأنا من أولئك الذين يراقبون ظلهم بالأرض ويلتفتون خلفهم أكثر من رؤيتهم للطريق.
الذين لا يدخلون بيوتهم حتى ينيرون كل الأضواء خوفًا من الظلام أن يلتهمهم أو تتخطفهم الأشباح.
نعم، أنا مثلكم تربيت على تلك القصص والخرافات التي تتحدث عن الغول وأبو رجل مسلوخة والنداهة، وأيضًا عن عفاريت الموتى الذين ماتوا بالقتل أو الانتحار.
تربيت على حكايات الأشباح التي تسكن المقابر وتعترض المارة لتتلبسهم إذا حل الظلام.
لا أخفيكم سرًا أنني من أولئك الأشخاص حتى وإن كانوا قلة، أولئك الذين ينتابهم الخوف من خزانة الملابس ومن أسفل الفراش، وكأن هناك من يختبئ بهما بانتظار أن أطفئ الأضواء فيحل الظلام ليبتلعني.
هكذا عشت طفولتي خائفًا من كل شيء وأي شيء، فكل ما يحيط بي يمثل مصدرَ خوفٍ ورعب وفزع محتمل.
ما أسوأ أن تنشأ على تلك القصص التي تتحدث عن الأشباح فتنصت لها وتجد داخل روحك صدى،
تلك القصص سكنت عقلي فاحتلته حتى أصبحت تقتات على روحي وتغولت لتلتهم كل حواسي.
ليس أسوأ من ذلك إلا تلك اللاءات التي لا تقبل النقاش وليس مسموحًا لك إلا الموافقة والإذعان دون فهم.
لا تفعل، لا تذهب، لا تسمع، لا ترى، هذا عيب، وهذا لا يجوز.
كثيراً ما أشعر أنني روحان وعقلان وفكران منفصلان، يجمعهم جسد واحد.
نعم، أنا الشجاع حد التهور والضعيف حد الجبن، أنا الإيجابي عندما يتعلق الأمر بغيري والسلبي فيما يخصني، أنا من أخشى المسير منفردًا حتى وإن كان طريق الصواب وأفضل المسير ضمن القطيع حتى وإن كان طريق الهلاك، هذا أنا، الشيء ونقيضه بنفس الوقت.
أشعر الآن وبعد أن كشفت لكم كل سوءاتي، أنني أصبحت عاريًا أمامكم، حتى من ورقة التوت الأخيرة التي كانت تستر مخاوفي من كل ما هو مجهول.
مهلًا، فأنا لا أريد الإبحار بكم داخل نفسي ولكن لتكن هذه الرحلة داخل أرواحكم أنتم، ربما استطعتم مواجهة مخاوفكم قبل أن تتغول وتبتلعكم كما فعلت بي، وحتى لا تزداد معاناتكم كما أعاني الآن وأنا أقف بمواجهة تلك الجثث ذات الأكفان البيضاء محاولًا إقناع نفسي أنني لست هنا، حتى وإن كنت هنا، فهى ليست حقيقية إنما هى من نسج خيالي المتخم بالخرافات والخزعبلات.
نعم، أنا داخل كابوس مزعج وعندما أفيق من نومي سأردد تلك العبارة الشهيرة والتي ترددونها عقب كل كابوس {خير اللهم اجعله خير}.
هذا تصور جيد ويناسبني، وما دام كذلك وقد اقتنعت أنني داخل كابوس لا شك أنه سيزول إن عاجلًا أو آجلًا فلا يضيرني شيء إن واجهت تلك المخاوف والخرافات بشيء من الشجاعة.
سأستدير وعندما أفعل ذلك فلن أجد أي شيء مما أخشاه أو أخاف منه.
تنفست بعمق وقمت بالعد من واحد لثلاثة، كعجوز بالعقد التاسع من عمره قاومت وجاهدت لأستدير، وما كدت أفعل حتى تسمرت أقدامي وجحظت عيناي بمحجريهما وأنا لا أكاد أصدق ما أراه بأم عيني أمامي مباشرة.
هل تتذكرون معي تلك الطاولة والمقاعد الثلاثة؟
نعم، إنها طاولة التشريح بمنتصف الغرفة وقد أخبرتكم عن ثلاثة مقاعد بالقرب منها.
هل فكرتم يومًا بشعوركم عندما تطالعون ثلاثة أكفان بيضاء فضفاضة تغطي ثلاثة أجساد؟
نعم، ثلاثة جثث ترتدي الأكفان البيضاء بينما منطقة الرأس ليست سوى قناع يخفي ما خلفه ما عدا العينين اللتين كانتا تبدوا لي فارغة ومجوفة، تحيط بها الهالات السوداء من تحت الجفون كمن جفاه النوم منذ سنوات.
أصبح الأمر الآن أكثر جموحًا وجنونًا، هل يعقل أن يكون هذا من تأثير الحشيش؟ ولكن مهلًا، لا تسيئون الظن بي، فأنا لا أشرب الحشيش.
دعوني فقط أولًا أوضح لكم أمر ما، فعدم شربي للحشيش ليس تدينًا مني أو حتى خوفًا من القانون ولكن وببساطة شديدة أنا لا أمتلك ثمنه لأتعاطاه.
هل جربتم ذلك الإحساس عندما تصبحون أمام خيارين أحلاهما مر؟ نعم، فهذا هو حالي الآن، فأنا محاصر من جميع الجهات فمن ناحية هناك ذلك الوحش الجاثم أمام الباب ينتظر خروجي لافتراسي، ومن جهة أخرى ثلاثة جثث ترمقني بريبة وحذر.
حتى رفاهية الصراخ لم أعد أمتلكها، ناهيكم عن تلك الأمنية بالغياب عن الوعي أو الدخول بغيبوبة أبدية تنجيني من هذا المأزق.
ولكن مهلًا، لماذا يحدقون بي هكذا؟
بل لماذا ينظرون نحوي بريبة وشك؟
أتراهم يخشون وجودي كما أخشاهم؟
ما كدت أتحرك ناحية الغرفة الملحقة بالمشرحة والتي تحتوي على الفراش حتى لمحتهم يتحركون نحوي مباشرة.
الآن فقط علمت كيف يقف شعر الرأس وكيف يتجمد الدم بالعروق وكيف تتحول الصرخات إلى صوت مبحوح وأَنَّاتٍ مكتومة.
كانوا يتجولون من حولي وكأنني كائنُ فضاءٍ غريب أو شبحٌ خارج من المقبرة.
ما هذا؟ هل يتحدثون حقًا؟
نعم، بـلا شك هم يتحدثون فأنا أسمع أحدهم يتحدث وهو يشير نحوي قائلًا: يبدو أنه يرانا أو على الأقل يشعر بوجودنا.
رد عليه الأخر بتعجب: ولكن كيف ذلك!
بينما أشار لي الثالث قائلاً بتساؤل وبنبرة صارمة: من أنت؟ هل يمكنك رؤيتنا؟ هل تشعر بوجودنا؟
عبثًا حاولت ابتلاع ريقي الجاف ولكن دون جدوى،
كرر سؤاله هذه المرة بخوف ممزوج بالغضب: هل ترانا؟
أنا بصوت مرتعش وبخوف: نععععععم، لاااااااا استطردت قائلًا: لا أدري ولكنني أشعر بوجدكم. اقتربَ أحدهم مني وهو يشير لي وكأنه يأمرني أن أتبعه، تسمرت بمكاني ليتقدم هو وما كاد يفعل حتى تجاوزني وكأنه هواء، فقد شعرت بلفحة من الحرارة دون أن يصطدم بي.
نظروا لبعضهم البعض وهم يقولون: نعم، ذلك يفسر الأمر.
ترى أي أمر ذلك الذي يتحدثون عنه؟ لا أنكر أن الأمر قد أثار فضولي وبشدة حتى أن الفضول لدي قد تفوق ولأول مرة منذ حضوري على خوفي وفزعي.
أدركت أنهم يرونني أو على الأقل يشعرون بي كما أراهم أو أشعر بهم، حقيقة لا أستطيع توصيف ذلك فقد اختلط الأمر عليّ وما دام الأمر كذلك فبالتأكيد سيسمعونني كما أسمعهم أو يفهمونني.
هنا استجمعت كل شجاعتي لأقول بصوت واهن وبلكنة تشبه الهمهمة عن أي أمر تتحدثون؟ وما ذلك الأمر الذي يفسره ما يحدث؟ ألا يجيبني أحدكم قبل أن أصل لحافة الجنون؟
توجه أحدهم نحوي ليتجاوزني كسابقه متوجهًا نحو الغرفة الصغيرة، وقد بدا لي أنه يشير لي لأتبعه فتبعته بهدوء واستسلام ليتوقف أمام زجاج النافذة المطل على الغرفة الصغيرة وهو يشير لي بإصبعه لأنظر حيث أشار.
ما إن فعلت ذلك حتى أصابني الذهول، رباه! ما هذا الذي أراه؟ ولكن كيف؟ وهل يعقل ذلك؟
في عجز تام وضعت يداي فوق رأسي وأغمضت عيناي لأصرخ وبكل ما أوتيت من قوة: أغيثوووووووووني
يتبع
الكاتب: أيمن موسى