المشرحة {5}
الحلقة الأخيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كان الأمر أكبر من قدرتي على الاحتمال، فما رأيته شيئاً لا يصدق. كانت صرخاتي تشق السكون، ورغم ذلك لا أدري إن كانت هذه الصرخات غادرت حنجرتي أم لا، وهل هناك أحد سمعها غيري أم أنها ذهبت أدراج الرياح.
فما إن تبعت الشبح والذي توقف أمام زجاج نافذة الغرفة الملحقة بثلاجة المشرحة، حتى أصابتني الدهشة والحيرة في آن واحد، ناهيكم عن إحساسي بالهلع، فمِن موقعي وحيث أقف كان (العم توفيق) مستلقيًا فوق الفراش يغط في نوم عميق.
نعم، هذا ما أراه الآن ويبدو لي واضحًا جليًا، ولكن، كيف ومتى! ولماذا لم أره قبل ذلك!
استدرت وقد زال بعض خوفي وهلعي لتحل محلهما الحيرة والتساؤلات، كنت أود الاستفسار من ذلك الشبح الذي أشار لي لأرى (العم توفيق) وهو مستلقياً فوق الفراش، وما كدت أفعل ذلك وأنا ما زلت أهذي وأردد بحيرة وقلق كيف؟
حتى عاودتني الحيرة مرة أخرى، فقد عاد الشبح لينضم لرفاقه وكأن وجودي لا يعنيه. كان الأشباح الثلاثة يقفون مجتمعين بجوار طاولة التشريح، ولكن، ولتزداد حيرتي هم يتجاهلونني تماماً، وكأنني لست موجودًا معهم بنفس المكان، وكأن أحدهم لم يتحدث معي أو يشير نحوي منذ قليل،
بجرأة وتهور أحسد عليهما صرخت فيهم قائلاً بحدة أين أنا؟ من أنتم وماذا تريدون مني؟
كررت كلماتي بمزيج من الخوف والانفعال ولكن لم يتغير أي شيء.
يا الله، ما هذا! إنهم لا يسمعونني، وكما يبدو فهم أيضاً لا يرونني، ولكن مهلاً كيف هذا وأنا أراهم رؤية العين؟ وقد سمعت حديثهم عني وسألوني إن كنت أراهم أم لا، حتى أنني أجبت نعم، وأيضاً ألم يُشِر لي أحدهم نحو غرفة (العم توفيق) وأنا تبعته لأراه نائماً! رباه ما هذا الكابوس! أتراني أتخيل ذلك! أم أن كل ما حدث ويحدث ليس سوى هذيان لشخص مصاب بالرعب والخوف منذ الصغر، هل يُعقل أنني أختلق كل هذا ولا وجود له بالواقع! هل يعني ذلك أنه لا وجود لهؤلاء الأشباح وأن ما دار بيننا من حديث لم يكن إلا محض خيال!
تقدمت نحوهم لأقترب أكثر وقد زالت بعض مخاوفي لتحل محلها حيرتي واضطرابي، ما إن اقتربت منهم حتى وجدتهم ينصتون بتركيز شديد وهم يشيرون لبعضهم البعض بالتوقف والهدوء، وأحدهم يشير لتلك البقعة التي أقف بها وهو يقول بحسم: إنه هنا. اقترب الآخران إلى حيث أشار وهم يؤمنون على كلامه.
أصابتني الحيرة والدهشة معًا فأنا لا أدري حقاً ماذا يقصد بقوله هذا أو على ماذا يؤيدونه، أشرت نحو صدري وأنا أردد بصوت عالٍ: أنا هنا، أنا هنا، هل ترونني؟ أنا أقف أمامكم مباشرة. ولكن دون جدوى، تجرأت أكثر فدخلت بينهم محاولاً جذب أحدهم من كفنه الأبيض، ولكنني ولدهشتي فقد تجاوزته وتجاوزتهم كالهواء، كررت محاولتي أكثر من مرة بلا جدوى مما سبب لي اليأس والإحباط.
هل جننت يا عماد! هم ليسوا سوى أشباح فكيف ستلمسهم! هكذا خاطبت نفسي ساخرًا منها.
وهنا روادتني فكرة ظننتها ستلفت أنظارهم لي وستؤكد لي إن كانوا يرونني كما أراهم أم لا،
توجهت نحو ثلاجة المشرحة وقمت بفتح جميع الأدراج محدثًا ضجة عالية وصخب.
نظرت نحوهم لأرى ردة فعلهم وعلى ما يبدو فإن حيلتي قد نجحت، فها هم يتقدمون نحوي بخطوات حثيثة وهم يشيرون نحو الثلاجة وإلى حيث أقف مباشرة ليقول أحدهم بخيفة وتوجس: هنا. يا الله، ماذا يقصدون بذلك وما معنى قولهم أنني هنا! أصابني اليأس من فهم ما يحدث لي وما يدور من حولي.
لم يكن أمامي سوى الانتظار حتى يفيق (العم توفيق) والذي فشلت بإيقاظه تمامًا رغم محاولاتي المتتالية، أو أن يأتي زميلي بالعمل والذي سيحل محلي عندما تنتهي مناوبتي. استدرت نحو الثلاجة لأغلق أدراجها المبعثرة دون أي مبالاة بهم، حتى أنني تجاهلتهم وكأنهم غير مرئيين لي، فمما لا شك فيه أن هناك شيئاً لا أفهمه! نعم، هناك حلقة مفقودة.
حدثت نفسي قائلًا: بلا شك، الأمر لن يتعدى أحد احتمالين لا ثالث لهما أولهما أنني لست هنا من الأساس ولم يحدث أي شيء مما تخيلته حتى الآن، نعم، ربما أنني نائم الآن بفراشي، أو أنني بمكان أخر، وما هذا إلا كابوس مرعب سرعان ما سينتهي باستيقاظي، والأمر الثاني هو أنني بالفعل هنا ولكن خيالي هو من يختلق كل هذه الصور والأصوات، وذلك نتاج خوفي وهلعي الشديدين وبتأثير من هلاوسي السمعية والبصرية.
أنهيت رص الأدراج لتعود كما كانت واستدرت لأستند بظهري على جدار الثلاجة، وما كدت أفعل ذلك حتى وجدت زميلي بشركة الأمن (وليد) يتقدم نحوي وعلى وجهه الشاحب ابتسامة باهتة.
كانت رؤيته أفضل ما حدث لي هذه الليلة، تنفست الصعداء وأنا أراه يقف أمامي، فقد كنت كما الغريق الذي يتعلق بقشة كما يقولون، توجهت نحوه بود ولهفة وأنا أقول بترحاب مهللاً: أخيراً أتيت يا رجل.
-وليد، بأسى وحزن وبنفس النظرة الشاحبة على وجهه: كيف أتيت إلى هنا يا صديقي؟ لماذا أتيت بهذه السرعة يا عماد؟
=عماد: لا يهم كيف أتيت أنا، ولكن المهم أنك أنت أتيت يا صديقي، فأنا هنا وحدي وأكاد أُجن منذ منتصف الليل، وربما أكون قد جننت بالفعل يا صديقي.
-وليد، بنفس الحزن والأسى وبنبرة متألمة: كيف أتيت؟
=عماد: لا شيء، كالعادة قد تم توزيعي هنا لأستلم مناوبتي، ولقد عانيت الأمرين منذ حضرت إلى هنا يا وليد، استطردت أقول بضيق: منذ الأمس وأنا بانتظار من سيأتي صباحاً ليحل محلي، وبينما كنت مسترسلًا في حديثي لا أدري لماذا راودني إحساس مريب وشعور غريب! فالوقت مازال مبكرًا جدًا على دخول الصباح، كذلك باب المشرحة ما زال مغلقًا من الخارج، وذلك الكلب أو أيًا كان ما زال جاثمًا أمامه، فكيف دخل وليد إلى هنا! بل لماذا أتى مبكرًا هكذا! وكيف دلف للداخل دون أن يطرق الباب أو يفتحه! استدرت بظهري وأنا في ذهول مما يحدث، تساءلت بخوف وحيرة: هل أختلقُ أيضًا وجود وليد هنا! اقتربت من الثلاجة لأحدق بها لأرى وليد من خلالها، ولكنه ليس موجودًا فأنا لا أرى أي انعكاس له على سطح الثلاجة المعدني.
إذاً أنا بالفعل أختلق هذا، ووليد ليس هنا وليس متواجدًا بالغرفة ولم يأتِ من الأساس، وضعت يداي فوق رأسي لأعتصرها بشدة مرددًا بغضب: ما هذا الجنون! ما هذا الجنون! وما إن رفعت يداي عن رأسي، حتى وجدت وليد يقف أمامي مباشرة وهو يربت على كتفي بيديه قائلاً رفقًا بنفسك يا صديقي، هون عليك يا عماد.
نظرت إليه بتوجس وخيفة وأنا أسأله بخوف وقلق: هل أنت موجود هنا حقًا؟
-وليد: نعم يا عماد أنا موجود وأنت أيضًا موجود.
=عماد : ولكن كيف! ولماذا أتيت مبكرًا عن موعدك! هل لديك تفسير لما يحدث من حولي منذ أتيت إلى هنا؟ أنا سأجن حقًا!
صمت وليد وصمت أنا أيضًا ليسود الصمت بيننا لدقائق، كانت كافية لأعود بذاكرتي للوراء لأتذكر صداقتي بوليد والتي بدأت بتقدمنا سويًا للعمل بشركة الأمن بعد فشلنا بإيجاد عمل يناسب مؤهلاتنا العلمية، كان وليد الأقرب لي من بين الجميع، وكم حزنت عليه كثيرًا عندما طالته يد الغدر ليتم قتله أثناء مرافقته لسيارة الأموال عندما تم اعتراضها من قبل اللصوص لسرقة الأموال، نعم، حزنت عليه و……… .
تملكني الخوف وسرت القشعريرة بكل أوصالي وأنا أردد بصوت مرتجف: وليد ميت، وليد ميت، نعم، مات صديقي وليد أثناء هجوم اللصوص على سيارة الأموال، يا الله! هذا يعني أنني أختلق وجوده هنا وأنه ليس إلا وهماً من نسج خيالي، ما هذا الجنون! عقلي يكاد ينفجر، شعرت بيد تربت على جسدي وصوت وليد يأتيني وهو يردد بحزن وألم: نعم يا صديقي أنا ميت. نظرت إليه بخوف وقلق: ولكن كيف هذا! هل يعني هذا أنك شبح!
-وليد وهو يمد يده ليتناول يدي متوجهًا نحو الثلاجة وهو يقول لي بتساؤل: ألم تنتبه لشيء عندما نظرت بمرأة الثلاجة؟
=عماد: نعم، لم أر أي انعكاس لصورتك بالمرآة، وهذا لأنك لست سوى روح أو شبح ولكن… قاطعني وليد وهو يشير بإصبعه نحو معدن الثلاجة اللامع مرددًا بألم: انظر إليك يا عماد، هل ترى شيئاً؟ اقتربت نحو الثلاجة ممعنًا النظر لأتبين ملامحي، ولكن معدن الثلاجة لم يكن يعكس لي سوى تلك الأشباح الثلاثة، والتي مازالت تشير نحوي أنا ووليد وهم يقولون هناك وبتلك البقعة تزداد الحرارة بالقرب من الثلاجة، ولكن مهلاً ماذا يعني كل هذا، فأنا لم أعد أفهم أي شيء؟
وضعت رأسي بين كفي وأنا أكاد أعتصرها مرددًا بصراخ: كل هذا ليس سوى كابوس، نعم، أنا داخل كابوس، وعما قليل سأفيق منه، أو ربما ربما أنني أختلق كل ذلك فلا وجود لوليد أو لأولئك الأشباح وما هذا إلا من نسج خيالي وهلاوسي.
أتاني صوت وليد صارخاً وهو يهزني بعنف ويردد: أنت ميت، أنت ميت، ميت. دفعته عني بعيدًا وأنا أصرخ بشدة: أنت لست هنا، أنت لست موجودًا إلا بخيالي أنا فقط. ضحكات متتالية وقهقهة عالية صدرت مني رغمًا عني والدموع تنساب على وجنتي: ما هذا الجنون! ما هذا الجنون!
-وليد: لا تقسو على نفسك يا صديقي فأنت لم تختر ذلك، كما لم أختره أنا، وما ذلك إلا أجل مقدر علينا.
=عماد: ابتعد عني ولا تقترب، أنا أحذرك من الاقتراب مني.
-وليد: أنا هنا يا صديقي، ولن أتركك أبدًا، ولكن يجب عليك أن تدرك تلك الحقيقة لتنعم بالسلام.
=عماد: أنا حي، أنا موجود وأنت شبح وهناك ثلاثة أشباح يتواجدون بالقرب من طاولة التشريح، أشرت نحوهم لأؤكد على كلامي وأنا أقول بإصرار: انظر، يمكنك أن تراهم.
-وليد: تعالَ يا صديقي وستفهم كل شيء.
وقف الاثنان بالقرب من طاولة التشريح ليتحدث وليد قائلاً بحزن: ما دمت تراني وأنا أراك فأنا ميت وأنت كذلك.
=عماد: وماذا عن الأشباح الثلاثة وأشار إليهم.
-وليد: نحن فقط من نراهم، أما هم فيشعرون بأرواحنا فقط دون أن يرونا.
=عماد: وماذا يعني ذلك؟ ولماذا يرتدون تلك الأكفان البيضاء؟
-وليد: من تراهم ليسوا سوى الطبيب الشرعي ومساعديه، وهم يرتدون زيهم الأبيض الخاص بالتشريح، كما أنهم يضعون الكمامات على أنوفهم للوقاية من الأوبئة وتجنبًا للعدوى، هم مازالوا على قيد الحياة يا صديقي، بينما نحن ميتون، هم ما زالوا ينتمون للبشر بينما نحن أرواح بلا أجساد.
سالت الدموع من وجنتي عماد وهو يردد ولكنني لم أعش حياتي كما أحب، فما زال أمامي الكثير لم أفعله، أنا لم أحقق ما أريد من حياتي، هناك زوجتي وأولادي وعملي، هناك حياة لم أعشها بعد، ليتني أستطيع العودة لأخبرهم كم أحبهم وأنهم يعنون لي الكثير، انسابت الدموع من عينيه وهو يقول بخوف: كما أنني لست مستعدًا للقاء ربي، فأنا لم أظن أنني سأموت مبكرًا، استطرد يقول بحزن: كيف ألقاه هكذا؟
لم يتمالك عماد نفسه وهو يقول: ليتني أعود لأصحح أخطائي، ليتني أعود فأعوض ما فاتني ليتني أعود ف…… .
لم يكمل عبارته حتى سمع صوت باب المشرحة يتم فتحه ليدخل (العم توفيق) والذي ألقى التحية على الأطباء وهو يتثائب وأثر النعاس ما زال بعينيه.
الطبيب الشرعي وهو يوجه كلامه للعم توفيق ممازحًا: لا أدري كيف تستطيع النوم العميق هكذا يا عم توفيق بالمشرحة وبجوار ثلاجة الموتى!
العم توفيق وهو يرد ضاحكًا: كان كده بالأسبوع الأول من شغلي هنا يا دكتور، أما دلوقتي معدش في خوف منهم، وبتعامل مع الجثث كأنهم أصحابي، نظر نحو الطبيب وهو يقول بلهجته العامية الساخرة: طيب أقلك على حاجه وتصدقها، أنا بكلمهم ويكلموني، دول غلابة يا بيه إتظلموا وهما عايشين وإتظلموا ميتين، وربنا بس اللي هينصفهم.
الطبيب الشرعي مؤمنًا على قوله وهو يقول بجدية: ماذا لدينا اليوم؟
العم توفيق بحزن بدا على صوته وهو يقول متأثراً: إمبارح جاتنا جثة لشاب زي الورد، قتلوه وهو مناوب بشركة مقاولات، دخلوا الحرامية علشان يسرقوها والمسكين راح ضحية طمعهم، منهم لله سرقوا زهرة شبابه.
الطبيب الشرعي: ولكنني لا أرى أي جثث بالثلاجة!
العم توفيق: هجيبها لحضرتك يا دكتور لأنها لسه بعربية الإسعاف، وزي ما أنت شايف الجو بره تلج يعني زي التلاجة وأكثر.
ألقى عبارته وخرج مباشرة ليتبعه عماد للخارج في ذهول تام مما سمعه للتو، سار خلف (العم توفيق) ليراه وهو يجاهد ليخرج تلك النقالة من داخل سيارة الإسعاف والتي كان يتواجد عليها جسد مسجي، عندما اقترب أكثر من الجسد المسجي ليتبين ملامح الجثة بوضوح، لم تكن سوى جثته هو، بحسرة وألم ألقى النظرة الأخيرة على وجهه الملطخ بالدماء نتيجة ذلك الطلق الناري والذي استقر برقبته مباشرة…
تمت بحمد الله…