لماذا نشعر بعدم الأمان؟
بدأتُ التجربة في يوم الخامس والعشرين من فبراير (شباط) للعام الجاري 2021، كتبت على صفحتي الشخصية نصًّا قصيرًا وتعمدت أنْ يحتوي النصُ على مشاعرِ الطمأنينة والهدوء والونس، فكتبتُ:
«بعد كل جملتين كان يتوقف ليقول لها: (اطمئني)».
كأنه يعلم أن الخوف هو شعور دائم لديها، ليس مجرد حالةٍ تتطلب وقتًا قصيرًا وتنتهي؛ لذا كان يعلم أنه كي يكسب ثقتها عليه أن يطمئنها ويُشعرها بالحماية.
أعتقد أن هذه هي أسمى مهام المُحِب؛ أن يُطمئن محبوبه.
-«طمنِّي كل أربع ثواني عشان بخاف».
وظللت أراقب التفاعل على النص خلال يومين متتابعين، في نهاية اليوم الثاني كانت حصيلة التفاعل:
220 تفاعلًا معظمها كانت بـ«أحببته».
275 من إعادة النشر.
ثم انتظرت يومين وقمت بإعادة التجربة، ناشرًا للمرة الثانية نصًّا قصيرًا تعمدتُ أن يحوي مشاعر الأمان والطمأنينة، فكتبتُ:
«حين رآها للمرة الأولى.. لم يكن لديه مانع أن تُلقي برأسها على كتفه.. رغم أنَّ لديه وسواس.. ولا يطيق أن يلمسَه بشر.
بهذه الطريقة؛ عرف أنَّ عليه أن يقضي معها الباقي من عمره.
وراقبت التفاعل للمرة الثانية خلال يومين، وكانت النتيجة:
350 تفاعلًا، و600 من إعادة النشر.
معظم التفاعلات كانت من الفتيات وعدد قليل جدًّا من الفتية رغم أنَّ النصين قصدت كتابتهم على لسان الذكر لا الأنثى.
هنا إنتهت التجربة الأولى.
بعد يومين، طلبت من الأصدقاء والمتابعين أن يصفوا لي شعورهم تجاه فعل «المواساة» متى يأتيهم بالطريقة التي تساعدهم في اندمال الجرح، ومتى تأتيهم بالطريقة التي تُثير ضيقهم، هل يتشجعون ويذهبون هم لطلب المواساة أو البوح بما ألمَّ بهم؟ أم يفضلون الانزواء على أنفسهم؟
وأعطيتهم خيارات لإرسال الإجابات منها وسيلة تصلني عن طريقها الإجابة بلا هوية الكاتب. وراقبت الإجابات، وجدت أن 100% من الإجابات التي وصلتني مع هويةِ المستخدمِ كانت من الفتيات، بينما جميع الفتيةِ الذين قرروا المشاركة في التجربة اختاروا عدم الإفصاح عن هويتهم.
ومن بين إجابات الفتيات كانت الكثير منها تدور حول خشيتهم لطلب المواساة خوفًا من التحقير أو التتفيه من أسباب حزنهم، أو النعت بالضعف، أو تحسس الشفقة ممن يبوحون لهم. واجتمعت إجابات الذكور كلها بأنهم لا يشعرون أبدًا ولا يحصلون نهائيًّا على أيِّ نوعٍ من أنواعِ المواساة حين تتحطمُ معنوياتهم.
سجلتُ نتائج التجربة ثم أجريت تجربة ثالثة، دخلت على إحدى مجموعات «فيسبوك» وهي مجموعةٌ ترفيهيةٌ ساخرة تعتني بنشر لقطات شاشة أو «screenshots» لمحادثات بين الأحبة أو المرتبطين، ونشرت لقطة شاشة مزيفة عن وعود يقولها أحد الذكور لحبيبته بأنه لن يتركها أبدًا. وراقبت التفاعل، انتظرت ثلاث دقائق فقط حتى وجدت 18 تفاعلًا والعديد من التعليقات التي كانت جميعها ساخرة تقلل من هذه الوعود، بل إن أحد التعليقات كان شابًا يقولُ إن هذا كلامٌ مزيفٌ يمكن أن يكتبه لأي فتاةٍ يعرفها على هذا الكوكب الأزرق.
هنا تنتهي تجاربي، وتبدأ تساؤلاتي؛ كيف انتشرت هذه الحالة المريعة من فقدان الثقة بين الشباب في مِصر؟
هذه التجارب أجريت في حلقة ضيقة من الشباب، وبأساليب بدائية تمامًا، لكن بالملاحظة المستمرة يمكن فعلًا لمس هذه النتائج على نطاقات أوسع من الشباب، أجيالٌ عديدةٌ تتبنى أفكارًا وقناعاتٍ مؤذيةً لهم ولمن حولهم، وصدورٌ لفتياتٍ وفتيهٍ خاويةٌ تمامًا من أي شعورٍ بالأمان. الفتيات أصبحن يخشين البوح خوفًا من الوصم بالتفاهة والسذاجة، والفتية يخشون طلب المواساة خوفًا من النعت بالضعف.
السرعة وسهولة الوصل اللذان أتاحهما عالم التواصل الاجتماعي سرَّعا العديد من التجارب التي كان يتحتم خوضها ببطء، كعلاقات الحب والصداقة والوعد بالبقاء والشعور بالأمان، أصبح الشباب ملهوفين على الدخول في علاقات عاطفية حتى لا يصبحوا أقل من أقرانهم، ويتبارزون في الحصول على عدد أكبر من العلاقات السابقة الفاشلة، مما أدى إلى تخزين معلوماتٍ سامةٍ بعقولهم وتخزين خبراتٍ سيئةٍ تؤثر في عيشهم حياة سليمة بعد ذلك، أو حصولهم على اختيارات جدية، لأن الخوف من أن تكون التجربة كسابقتها فاشلة حتى لو كانت بوادر التجربة تبشرُ بالنجاح!
العديدُ والعديدُ من الشبان والفتيات في العالمِ الأزرق يعانون من نقصٍ حادٍ في الشعورِ بالأمان وزيادةٍ مريعةٍ في الشعور بالخواء وارتفاعٍ غير معقول في الرغبة في السخرية والتنكيل بالآخرين؛ ظنًّا منهم أنهم بهذا يبنون شخصيةً مستقلةً.
لنتوقفْ لحظة، ونتخيل مستقبلّا أسريًّا وعائليًّا بأكمله يتوقفُ على هذه النفوسِ الضعيفة، كيف سيصبحُ العالمُ بعد عدة أعوامٍ؟