كاميليا القايد تونس تكتب
فقدتُ نفسي مرتين
مازلتُ أذكرُ كيف لمعت عيناي فرحا، عندما أخبرني الطبيب بأنني “حامل بتوأم” كنت أقفز سعادة، وأصفق تارة وأمسح دموعي تارة أخرى، فرحة اكتملت برؤية دموع فرح زوجي عند سماعه الخبر ومعانقته لي بكل حرارة وحب، مازلتُ أتذكر جيدًا ذلك اليوم عندما عانقتُ كل من يعترضني من ممرضات، عاملات النظافة، الأطفال.. لأخرج من المستشفى ممسكة بيدي زوجي بكل فخر وسعادة وأمل، أتذكر جيدًا كيف استقبلتْ عائلتي وعائلة زوجي الخبر.. أتذكر تفاصيل ذلك اليوم جميعها، صوت زغاريد أمي الذي ملأ الحي، تهاني وعناق إخوتي، جيراني، أقاربي، هاتفي الذي لم يصمت يومها عن الرنين، الرسائل الكثيرة، لأشعر حينها بسعادة عارمة بعد مرور خمس سنوات عجاف.. فزواجي من رجل أحلامي وحُبّي الأول لم يكن كافيا.. حيث كان ينقصنا ثمرة هذا العشق، وأخيرا جاء الحظ في صفي وسأنجب، بعدما يئس الأطباء من إنجابي ويئس زوجي أيضا وجل عائلاتنا، بعدما تناولت جميع أنواع العقاقير والأعشاب، بعد كل أنواع الإبر التي دقت جسدي دون جدوى. سنوات مرت ولم أحمل، سنوات أنام في الليل باكية وأستيقظ في الصباح باكية أيضا، سنوات تحملتُ فيها تنمر الأقارب والجيران.. تحملتُ كمية من الأسئلة التي لا تحتمل.. التي لم يكفوا عن طرحها علي كلما اعترضتُ طريقهم، في السوق، في شرفة منزلي، في الحي، كأنهم لعنة تلاحقني أينما ذهبتْ، لعنة سببت لي غصة في القلب وشرخ في الروح، كلما كان يعود زوجي من العمل يجدني أبكي بحرقة، يعانقني ويخبرني أنه دائما بجانبي ولن يتركني أبدا، كان في كل مرة يخفف عني وطأة الألم وإحساسي بالنقص الذي ينتابني كلما لمحت طفلاً صغيرًا أعانقه وأمسح على شعره كأنه طفلي، كنت أموت كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة، صوت في داخلي لا يهدأ يصرخ ويبكي ويعاتب ويتهمني دائما بأنني لست امرأة كسائر النساء؛ لم أستطع أن أهدي زوجي طفلا يحمل اسمه، رغم ذلك كنت لا أكف عن الصلاة ومناجاة خالقي، كنت كلما استيقظت في الليل باكية أذهب للوضوء والصلاة والاستنجاد بالله وحده، يئست من العقاقير وزيارة الأطباء، لكنني لم أقنط قَطْ من رحمة الله، فبقدر بكائي كانت صلواتي ودعواتي.. بقدر ألمي كان قربي إلى الله.. وهكذا مرت سنواتي ليصلح الله بعد ذلك الأمور بطريقة مبهرة وأحمل برزقين، فعلا إنه الله قدير على كل شيء، كنت أوثق صور الأشعة فوق الصوتية لأطفالي في كراس وأكتب عليها الأسبوع كم واليوم، وحتى اللباس الذي ارتديته وذهبت به للقيام “بالإيكو” “ههه” اشتريت كل المستلزمات، كل أنواع كتب الأسماء لاختار لهم أسماء مناسبة.. منذ حملي وأنا ممسكة ببطني، أمسح عليها برفق وحنان وأتحدث مع جنينيّ وأخبرهما عن انتظاري ولهفتي لرؤيتهما في حضني.. تلونت حياتي بألوان الفرح بعدما كانت شاحبة، امتلأ يومي بعدما كان فارغا، أَزهر منزلي ومعه قلبي.. أصبح للحياة حقا طعم آخر، كنت حريصة على أكلي وشربي وراحتي، كان كل شيء رائع قبل أن تنقلب حياتي الوردية رأسا على عقب، كان يوما في غاية الشؤم، يوم فقدت ثمرات حياتي في حادث مرور أليم، لم أكن أتوقع أبدًا أن شبح الموت كان يهدد أمومتي، لم أتخيل ولو للحظة واحدة أنني سأعود إلى دوامة الألم والنحيب من جديد.. بعد خروجي من المستشفى تغيرت حياتي، كنت كعائدة من حرب مبتورة القلب، كنت كآخر جندي خسر وطنه وعاد يجر أذيال الهزيمة وراءه ويَعدّ خسائره على أصابع قلبه.. لم يأت زوجي لي في ذلك اليوم ليخرجني بنفسه من المشفى حتى أيام مكوثي هناك كانت زياراته قليلة، لم يزرني إلا مرة أو مرتين تقريبا، بتعليل أن ساقه مكسورة جراء ذلك الحادث اللعين.. عدت إلى المنزل امرأة ميتة بلا عنوان تمتطي خيل الخيبة، ومنذ ذلك الحين لم يعد زوجي هو ذاته زوجي الذي أعرفه، أصبح وكأنه يعاقبني على أمرٍ لا دخل لي فيه، لم يعد الفرح والضحك والأحاديث الطويلة تطرق بابنا، أصبح الصمت سيد المواقف ونجحت المسافات في فرض نفسها بيننا وأصبحت الحواجز تفصلنا، بينما تختفي هذه الحواجز مع هاتفه وسهره معه إلى ساعات متأخرة من الليل، كنت أنا أموت قهرا في غرفتي..تغير تعامله معي وأحيانا لا يعود إلى البيت أبدا، لأصبح أنا والجدار واحدا.. لأصبح أسيرة الألم بقلب مشنوق.. ما يؤلمني حقا ليس ما أصبحنا عليه.. ما يؤلمني أنه لم يحاول من أجلي، من أجل أن نتخطى هذه المحنة معا.. بينما كنت منذ سنوات أتخطى من أجله العقبات.. ما يؤلمني أنني هنت، و كنت أظنني لا أهون ونسيت أن بعض الظن إثم، وإثمي كان كبيرًا و عقابه كان شديدًا، لأبحث من خلاله عن عبارة تفوق الألم عنفا وتتفوق على الوجع ضراوة، لتصف ما أنا به بالقهر رغم أننا تعاهدنا أن نقف دائما في وجه الحزن سويا.. أصبحنا وجهين لخيبة واحدة، كم كنت ساذجة حينما صدقت أن الحب الكبير هو الذي نلتقيه عند الحزن الكبير! حينما كانوا يسألونني عنك وكنت أقول: هو العوض الجميل. كم كنت واهمة حين رأيت في عينيك الأمان! فأين الأمان؟! لم تظلمني، بل حقا ظلمتُ نفسي حين أطعمتك حب فؤادي، وتأكدت من هذا حين عدت إلى بيتي ذات يوم بعد قضاء أيام معدودات في منزل والدي؛ لأنني حقا لم أتحمّل الصمت و المعاملة الباردة.. لم أتحمل سهرك إلى ساعات متأخرة من الليل وعدم العودة إلى البيت أحيانا كثيرة، لم أتحمّل كل ذلك مع وجع فقدان جنينيَّ، ذهبت مكسورة الخاطر والقلب إلى أمي؛ لتساعدني على انتشال ألمي وتقنعني بمنحي إياك فرصة ثانية ولحياتنا مرة أخرى، وعدت إليك لأنني حقا أحببتك.. عدت لأجدك تضاجع امرأة غيري وعلى سريري أيضا وفي منتصف غرفتي وبين أشيائي، بين ثيابي، بين أحلامي وبين ذكرياتي معك، لأقف من هول الصدمة متسائلة من هذا الشخص؟ هل هو نفسه الذي اخترته من بين الجميع وأحببته وتزوجتُ منه؟ هل هو نفسه الذي حاربت من أجله العائلة والزمن؟ مُسّكن أوجاعي أصبح وجعي؟
منذ ذلك الحين قررت أن أكون قوية وألملم جراحي لتنتهي مسرحية مأساتي بالطلاق.. فرغم ضعفي ما عدت أهرع لأحتمي بمظلة صوتك حين تهطل أحزاني، وما عدت أختبئ خلف قلبك حين تغلبني دموعي، امتلكت جرأة الوقوف من دونك جرأة العودة من حيث أتيت، حين أيقنت أنك لم تعد سكينتي ولا مأمني ولا أماني، ولم أعد ابنة قلبك وصغيرتك المدللة، أنا يا وجعي لا أبكيك، لا أبكي أياما خالية منك، ولا ياء الملكية التي بترتها من اسمك، لا أبكي كوب القهوة الذي لن نشرب منه سويا مجددا، ولا إفطارا تعده لي ذات صباح، لا أبكي وسادة كانت تجمع رأسينا، ولا أفلاما كنا نشاهدها معا، ولا شوارع كنا نتمشى فيها سويا، لا، كلها أشياء ألعنها الآن، بل ما يؤلمني حقا أنني ما كنت أحسب للفراق حسابا مثلك، وما اتخذت بديلا كما فعلت.. أُشفق على الأمل الذي تربى بيننا ثم فجعنا باليتم واليتيم، وحدي أعرف ماذا يعني أن يبكي يتيم؛ لأكون بذلك قد فقدت نفسي مرتين، مرة عند موت ثمرات حبّي ومرة عند موت قصة حبي العنيفة، والتي كفّنتُها بدموعي ليالٍ عديدة؛ لتموت على الأقل طاهرة بين أحضان التراب.
كاميليا_الڨايد/تونس