صرخة ضمير {ق_ق}
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أين أنا؟ كان هذا أول ما تبادر إلى ذهنه وهو يتأمل المكان من حوله في حيرة وقلق.
فهو وكما يبدو وجد نفسه فجأة يجلس بأحد الكافيهات الراقية وحيدًا على مائدة مستطيلة، ولدهشته الشديدة لا يدري متى أو كيف ولمَ أتى! ورغم ذلك فهو لا يشعر بالغربة في هذا المكان وكأنه معتاد الحضور إليه باستمرار.
مرت الدقائق عليه ثقيلة وهو يرتشف قهوته متتبعًا بخارها المتصاعد ببصره، والذي ما كاد يختفي حتى وجد بصره معلقًا بتلك الفتاة والتي تجلس على المائدة المقابلة له مباشرة، وما أثار انتباهه أكثر أنها ترفع معصمها باستمرار لتنظر نحو ساعتها وكأنها تنتظر حضور أحدهم على أحر من الجمر.
للوهلة الأولى شرد وهو يتأمل ملامحها الطفولية رغم جمالها الأخاذ مما زادها رقة وسحرًا.
كانت فتاة بنهاية عقدها الثاني أو بداية عقدها الثالث، خمرية البشرة ذات جمال لا تخطئه العين، متوسطة الطول متناسقة الجسد وإن كانت تميل لكونها نحيفة.
ولكن مهلًا إنها هى! لاشك أنها هى! نعم، هو يعرفها جيدًا، بل إنه يعرف كل شيء عنها! ولكن كيف ذلك وهو يكاد يجزم أنه يراها للمرة الأولى في حياته؟ أغمض عينيه قليلًا وهو يتذكر معلوماته عنها ليردد بصوت خفيض لا يسمعه سواه {آية}، العمر 31 عام، أنهت دراستها بكلية الآداب قسم اللغة الفرنسية، تنتمي لأسرة متوسطة الحال، تعيش مع والدتها وشقيقتيها وشقيقها الأصغر بعد موت والدها بإحدى دول الخليج.
أخذ يفكر مليًا وهو يضع رأسه بين يديه وكأنه يعتصر ذهنه ليعرف كيف ومن أين يعرفها؟ وكيف يعرف عنها كل هذا الكم من المعلومات؟ حتى أنه يعرف أنها تعشق اللون الأسود والأزرق وتحب من الزهور الفل والياسمين، كما أنها تعشق الأطفال ولا تمل من لهوها معهم، وهى أيضًا مدمنة للقراءة وحب المطالعة!
أعاد النظر إليها يتأملها بهدوء ليجدها على حالها مازالت تطالع ساعتها بشغف.
تساءل بينه ونفسه هل يعقل أنه فقد ذاكرته؟ ليتساءل مرة أخرى ولكن هل تعرفه هي؟ لماذ لا يتقدم نحوها بهدوء ليسألها مباشرة وبوضوح من أنتِ؟ أو ربما من الأفضل لو يسألها من أنا؟ ولكن ماذا لو ظنت أنه يتحرش بها وتعرض للحرج؟ بعد تفكير عميق هداه تفكيره لأن يتوجه نحوها ليسألها عن الوقت، فإن كانت تعرفه كما يعرفها لا شك أنه سيدرك ذلك من خلال انفعالات وجهها وملامحها، وربما تتطوع من تلقاء نفسها لتخبره عن كل ما يجهله، وتجيب عن تلك الأسئلة الحائرة بعقله، وتزيل هذا الزخم من علامات الإستفهام.
اعتدل واقفًا ليعدل من هندامه، من ثم وبخطوات مترددة تقدم نحوها في توتر، وما إن وصل إليها حتى وقف أمامها دون أية حركة وكأن قدماه قد تسمرت بالأرض، أفاق من شروده على صوتها الملائكي وهى تسأله في لطف هل تبحث عن شيء؟ ما زال ينظر نحوها في صمت وشرود وكأنه خارج إطار الزمان والمكان؛ لتستطرد قائلة في حِدة كيف يمكنني مساعدتك؟
أفاق من شروده على سؤالها ليجيبها متلعثمًا: لا شيء، لا شيء، فقط أردت أن أسألك عن الوقت.
نظرت نحوه في شك وريبة وهى تتطلع إلى معصمه لتقول متسائلة ولكنك لديك واحدة، وهى تشير نحو ساعته، ليزداد خجله وتلعثمه وهو يقول: نعم، نعم، ولكنها غير مضبوطة.
لم تشأ أن يطول الحديث أكثر من ذلك فأجابته بحزم الساعة الآن الثامنة مساءً.
شكرها وانصرف عائدًا نحو مائدته تسبقه نبضات قلبه المتلاحقة وذلك العرق الذي يتصبب على وجهه حتى كاد يغرقه، جلس وقد ازدادت حيرته وازداد الضجيج برأسه، لا يدري كيف يفسر ما يحدث معه.
مرت الدقائق ثقيلة، وما كاد ينصرف حتى لمح تلك الابتسامة على شفتيها وهى تطالع ذلك القادم من بعيد. في حركة لا إرادية دفعه فضوله للنظر نحو ذلك القادم وهو يتساءل تُرى من يكون؟
وما إن حانت منه التفاتة نحو ذلك القادم، وما إن رآه بوضوح، حتى كاد يُغمى عليه من شدة الذهول، فلم يكن هذا الشاب إلا خالد، ذلك الشاب الوسيم المستهتر، والذي يظن أنه بالمال يستطيع شراء كل شيء معتمدًا على ثراء والده، وصلاته مع عُلِّيَّةِ القوم.
نعم، هو يعلم عنه كل شيء، فهو بمنتصف عقده الثالث، أنهى تعليمه الجامعي بصعوبة، كما أنه متعدد العلاقات، ولا يكاد يستقر بعلاقة واحدة أكثر من شهور، مما جعله كثير الشك في كل الفتيات، ويظن أنهن سواء ولا توجد ببنهن من تستحق أن يهبها قلبه أو يقترن بها، حتى التقى ب{آية} والتي كانت تختلف عمن سواها.
حاول جاهدًا التودد إليها كثيرًا ولكنها صدته وتمنعت عليه، حتى أنه لم يجد أمامه سبيلًا للوصول إليها إلا خطبتها، وهذا ما حدث بالفعل منذ عدة أسابيع.
ولكن مهلًا، من أين له كل هذه المعلومات عنهما؟ يا له من شعور صعب كاد يصيبني بالجنون، من أنا؟ وكيف أعرف عنهما أكثر مما أعرف عن نفسي؟
طلب من النادل فنجان آخر من القهوة وهو يراقبهما في حيرة وقلق، وما إن حضر النادل حتى تناول القهوة يرتشفها في نهم، محاولًا التوصل إلى إجابة هذا السؤال الصعب: ماذا يحدث لي؟
على حين غرة نهض خالد تتبعه آية، وقد بدا له أنهما ينصرفان، وبلا أي تفكير نهض خلفهما يتبعهما في هدوء وصمت.
ما إن اقترب منهما حتى سمع خالد يخبرها عن مرض والدته، وأنه يود لو أنها تذهب معه للاطمئنان عليها. سمع آية ترفض ذلك بلطف متعللة بتأخر الوقت، وأنها لم تخبر والدتها بذلك.
كان خالد يلح عليها في طلبه وهو يعدها أنهما لن يتأخرا، فقط دقائق، وسيقوم بإيصالها لبيتها بسرعة.
كان يسمع ما يدور بينهما بوضوح تام وكأنه يشاركهما الحديث، أغمض عينيه وكأن روحه قد انسلت من جسده؛ ليرى خالد يصطحب آية متوجهًا نحو منزل والدته المزعوم. نعم، هو يختلق كل هذا فوالدته ليست مريضة، وهو لن يذهب إليها، هو فقط يتحجج ليقنع آية بالذهاب معه لشقته الخاصة، حيث ينتظره أصدقاءه ليكسب ذلك الرهان بينهما باصطحاب آية إلى شقته، ليثبت لهم أن الفتيات كلهن سواء، وكل ما في الأمر أن لكل واحدة منهن مفتاح خاص بها، وشفرة تختلف عمن سواها، وهو يمتلك كل المفاتيح كما يزعم دائمًا.
نعم، هو يدرك جيدًا أنه ليس سوى فخ لتلك الملاك، هنا كاد يقع على الأرض مغشيًا عليه من هول ما يعتريه من تناقضات، فكيف له أن يعلم ما سيحدث قبل أن يحدث؟ كيف له أن يعلم عن نوايا خالد؟ بل وكيف يعرف عن رهانه مع من هم على شاكلته؟ والأهم من كل ذلك كيف ينقذ آية من ذلك المصير المؤلم الذي ينتظرها؟ هي لا تستحق ذلك، نعم، لا تستحق، فقد أحبته بكل صدق وكانت تأمل في تغييره للأفضل، أرادت أن تثبت له أنها مختلفة عن كل أولئك الفتيات اللواتي التقى بهن من قبل، أرادته أن يعلم أنه على خطأ وكما توجد فتاة رخيصة، هناك فتاة غالية كما الذهب.
ركب خالد سيارته بجواره آية لتنطلق السيارة في طريقها نحو ذلك المخطط الخبيث، يا الله ماذا يحدث؟ إنها كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معاني، هل ستحتمل آية هذا المصير؟ كيف ستواجه المجتمع؟ هل يمكنها مواجهة أحكام الناس الجائرة وسوء نواياهم؟ والأهم من ذلك، مَن سيكون المجرم الحقيقي، هو أم خالد؟ الآن فقط تذكر كل شيء بوضوح تام، وليته ما تذكر، فقد أدرك سوء صنيعه وما قدمته يداه، نعم، هو شريك خالد بكل ما سيحدث، أليس هو من صنع خالد من وحي خياله؟ ألم يضع هو كل خصاله السيئة وصفاته المقيتة؟ إذاً فهو المسئول حتى وإن لم يدينه القانون، يكفي أن يكون مدان أمام ضميره، نعم، إنها مسئوليته الأدبية ككاتب ومؤلف.
انتفض بشدة وعينيه ما زالت تلاحق السيارة التي تقطع الأسفلت في سرعة شديدة، ليجري خلفها بكل ما أوتي من قوة وهو يصرخ في حزن وألم: لا لا لااااااااااااا.
أفاق من غفوته وما زال الحزن والخوف يسيطران عليه لينظر من حوله في توجس وخيفة، وما إن وجد نفسه داخل غرفة مكتبه أمام اللاب توب الخاص به وفنجان قهوته والتي فقدت حرارتها وغادرها بخارها الساحر، حتى تنفس الصعداء، ووقعت عيناه على شاشة اللاب توب حيث كان منهمكًا في كتابة قصته الجديدة {الذئب}، نعم، هذا حقيقي، فهو كاتب ومؤلف وما آية وخالد إلا أبطال وشخوص قصته كما تخيلهم.
كان هذا كفيل ليشعر بالارتياح، فهو الآن يستطيع أن ينقذ آية من ذلك المصير السيئ، لم لا وهو من صنعها ووضع مصيرها من خلال بنات أفكاره لتخطها حروفه وأنامل، تنفس الصعداء فالأوان لم يفت بعد لتدارك الأمر وإصلاحه.
توقف قليلًا متساءلًا في حيرة: ولكن كيف ينقذها؟ هل يمحو هذه القصة من الأساس وكأنها لم تكن؟ أو ربما يستطيع أن يجعل آية تكتشف حقيقة خالد ونواياه الخبيثة قبل فوات الأوان؟ أم يغير نهاية القصة فيقوم بتعديل سلوك البطل، نعم، هو يستطيع ذلك من خلال الحب فالحب يصنع المعجزات.
يستطيع أن يغير خالد ليتزوج من آية وهذه النهاية السعيدة يفضلها الجميع خاصة القراء، بدلًا من أن يصبوا لعناتهم على الكاتب عندما تموت البطلة أو يفرق بينها وبين من تحب.
بالنهاية وبعد صراع طويل ما بين عقله وقلبه وبين الواقع والخيال وبين ما يفضله القراء وما يؤمن به ككاتب، قرر محو قصته فهو بالكثير من الأحيان يشعر أنه مثل قراءه، يتفاعل مع أبطال قصصه، يحاورهم ويحاورنه لمَ لا وهم يعيشون معه ولهم عليه حق العشرة.
كما أنه ولسبب ما لا يدري ماهيته، يشفق على آية حتى أنه يشعر أنها أخته أو ابنته أو ربما حبيبته، لذلك كان قراره الحاسم أن يمحو القصة، فهو لن يجعلها تعيش ذلك المصير البائس حتى وإن كان على الورق، ضميره الأدبي يمنعه من ذلك حتى وإن كان الهدف نبيلًا بجعل القارئ يتعظ ويعتبر.
بتوتر ألقى نظرة أخيرة على القصة قبل أن تمتد يده المرتعشة ويضع إصبعه على كلمة حذف المنشور، وما كاد يفعل ذلك حتى اصطدمت يده بفنجان قهوته وهي في طريقها لحذف القصة.
وبحركة لا إرادية منه انحنى للأسفل في محاولة يائسة لإنقاذ الفنجان من السقوط، وما إن اعتدل حتى اكتشف أنه وبالخطأ قد ضغط على كلمة نشر، بدلًا من حذف، لتتوالى الإشعارات بتعليقات القراء…
الكاتب أيمن موسى