فرح هذلي تكتب
ألس
يقول:
بعد سنين من البحث عثرت على عنوان بيتها، أخذتُ نفَسًا عميقًا ثم وضعتُ حدًّا لدقّات قلبي الزائدة، وحاولتُ أن أَكبتَ مشاعري والحنين الذي يسري في قلبي قدرَ المستطاع، ها أنا أدقّ الجرس كما دقّت هي أجراسَ قلبي من قبلُ، وكُلّي آمال أن ألقاها هنا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، تُرى هل ستتعرف إليَّ بعد كل تلك السنين التي قد خلت؟ وهل ينسى الصادقون في الحب أحبّاءهم يومًا!
تُرى هل سترى في عينيّ لمعةَ الحب التي لم تفارقني لحظة منذ رحلتْ عني؟ ترى هل ما زالت لا تتحمل رؤية علامات الإرهاق من العمل، تلك التي تغطي تفاصيل وجهي؟ ولكن ما من علامات إرهاق من العمل الآن!
إنّما إرهاقٌ من عدد اللّيالي التي أمضيتها دُونَها، أنتظرها فيها والدموع لم تجفَّ يومًا من عينيّ، وبينما تُداهمني الأفكارُ والهواجسُ من كل مكان، شعرت بهزةٍ خفيفةٍ أسفلَ بنطلوني، فأنزلتُ نظري لأرى طفلةً صغيرةً ذات شعرٍ أشقرَ لامعٍ، وعينين “عسليّتين” لامعتين كأشعّةِ الشمسِ، تحملُ في يَديْها الصغيرتين أحمرَ الشفاه، بنّيًّا داكنًا، إنّي أَذكرُ ذلك اللون جيدًا؛ فلَم أرَ حبيبتي يومًا تضعُ على شفاهها غيرَ هذا اللونِ، وإنْ غَيّرته فإنما تُغيّر درجاتِه فحسْب. يقاطع الفوضى التي تسري داخلي صوتٌ ملائكيّ:
- “عمّي، مضى وقتٌ طويلٌ وأنت تقف أمام بيتنا وتنظر إليّ هكذا، فمن تكون؟
لأن أمّي أمرتني ألّا أطيل الحديث مع الغرباء! تَمالكتُ نفْسي، ولِلحظة خُيّل لي أنّي مخطئٌ العنوان؛ فاستدرت عازمًا على الرحيل، دونَ أن أنطق بحرف، حتى يطرق طبولَ أُذنيَّ صوتٌ، حتى بعد مئة سنة لا تقلّ الرعشة التي تسري في جسدي عند سماعه، “إنها هي، نعم، إنه صوتها” ولكن ما الذي قالته ذلك؟! - مَن بالباب يا صغيرتي؟
- إنّه رجلٌ لا أعرفه يا أمي، ويَأبى أن يقول شيئًا!
لقد نادت تلك الطفلة بـ “صغيرتي”، وهي أجابتها بـ “أمي”! حاولت أن أهدأ وأستدير حتى أصطدم بعينيها السوداوين، وجسدها النحيف ذي البشَرة البيضاء كالحياة معَها، “إنّها حبيبتي، إنّها هي بلحمها ودمها، إنّها تتنفس أمامي، تُبادلني النظراتِ نفسَها، إنّها تلك التي سلبت عقلي ورُوحي، وجعلتني جُثةً على هامش الحياة منذ أكثرَ من خمسِ سنوات، ها هي الآن تقف متسمرةً أمامي، خطوتان فقط تَفصلان بيننا، بل صوتُها الملطخ بشيء من الحزن يخترق قلبي مباشرة. - مَنْ أنتَ يا سيدي؟ لماذا تقف أمام منزلي هكذا ماذا تريد؟
أَيُعقل أنّها لم تتعرف إليّ؛ لكنّي تحسُّبًا لهذا وضعتُ من العطر الذي تُحبّه، بل استحممتُ بالعُلبة كلِّها!
ربما تتظاهر بذلك؛ خوفًا من معرفة ابنتها بالأمر، نعم، لقد تزوجتْ، وهذه طفلتها، ولا عجبَ في ذلك؛ فهي نسخةٌ مصغرة منها! لقد تزوجت وأنجبتْ طفلةً، ربما أكثرَ، وأنا أقفُ أمام البيت الذي يملكه زوجها، وأنتظر منها عِناقًا يَمحو عناء سنينَ من الهجر! ما هذا الغباء -يا رجلُ- الذي يصدر منك، هيا انصرفْ قائلًا: آسفٌ يا سيدتي، أظنُّني أخطأت العنوان؛ فقد قصدت منزلَ امرأة وعدتني منذ زمنٍ ألا تكون لغيري.
وانحنيت أهمس للطفلة: أخبري أمَّك أنها على عادتها، تستطيع إخفاء كلّ شيء عن الجميع، ولا تستطيعُ إخفاء شيء واحدٍ عني.
ثم حملتُ قِطع قلبي المتناثرة وانصرفت نازلاً على الدرَج، أُمسكُ بأطراف الحائط؛ خشيةَ الوقوع من تأثير الصدمة الأولى، حتى أجدُ نفسي وسطَ تأثير الصدمة الثانية!
- “أَلِسْ” تعالَيْ إلى هنا، إلى أين أنت ذاهبة؟!
- يا إلهي! لقد نطقتْ باسم “أَلِسْ”! الاسم الذي كُنّا قد خططنا لأن يكون اسم طفلنا الأول!
| فرح _ هذلي 🖋️ |