المدب و قصة أخرى : ( من الذاكرة )
بقلم الأديب الشاعر /عبده مرقص عبد الملاك سلامة
ما زالت ذكريات الطفولة تطاردنى و تتصارع فى ذهنى محاولة الخروج للحياة و تلح على أن أرويها فأنا شاهد معاصر لها و هى موثقة صوت و صورة فى ذاكرتى ,و قد عايشت عديداً من القصص و كنت بالقرب من الأشخاص و موقع الحدث و بالرغم من طفولتى فكان يستهوينى مجالسة كبار القوم و متابعة أحداث حياتهم اليومية و قد كنت أجد متعة بالغة فى ذلك , و يروقنى أن أستمع لما يحكيه أى منهم من قصص أو مواقف فى حياته أو بعض النوادر ..كل ذلك لعب دوراً هاماً فى تكوينى و بناء شخصيتى فأنا لست بمنأى عن البيئة التى أعيش فيها فأنا متغلغل فيها بكل حواسى وأتنفسهاوأحيا بها ….
و كان القوم يجتمعون – كما هو المعتاد – فى تلك التعريشة التى كانت تستخدم كمنتدى و مصلي , او على المصطبة بجوار دكان الحاج سلام يستمعون للمذياع و كان مذياعاً ضخماً و له ( بطارية ) فى حجم بطارية الموتوسيكل و له إيريال ( هوائى ) مكون من طرفين متصل بسلكين , أحدهما مغروسا فى حفرة مغمورة بالماء فى الأرض و الطرف الآخر معلقاً على سطح منزلنا ( الدور الرابع ) و كانت إذاعة البرنامج العام هى السائدة و كانت تذيع بعض الأغانى لعبد الحليم و عبد الوهاب و محمد فوزي وأم كلثوم و نشرة الأخبار و بعض الأوبريتات مثل أوبريت ( تاج الجزيرة عم مرزوق ) و غيرها و كذلك برامج مثل دنيا و دين و همسة عتاب و صباح الخير و كلمتين و بس و الغلط فين و احيانا اوئل الطلبة و على الناصية و مسلسلات مثل موهوب و سلامة و لعبة كل يوم ..و كانت نتائج الثانوية العامة تذاع من خلال المذياع و يستمع لها حتى من ليس له أبناء و كانت تذاع بأسماء المدارس و ارقام الجلوس و لم تكن تغنى أو تسمن اإذ ان المذيع يتلوها كالآتى ( مدرسة ….. طلاب ناجحون و يتلو ارقام الجلوس او مدرسة .. لم ينجح احد ) و طبعاً الرقم الذى يذكر يكون حالفه الحظ و الذى لا يذكر يكون خالفه الحظ ….ايام كانت جميلة ببؤسها و متاعبها و نوادرها و بالرغم من قلة امكانيات الحياة و لكنها كانت بسيطة و سهلة ( كما قال عادل امام )
و كانت تدور عليهم اكواب الشاى التى يساهم بها ابى فقد كان لنا براد شاى مثل براد بائع الشاى فى القطار و احيانا كان احدهم يطلب من الحاج بتعريفة شاى و تعريفة سكر و يتم اعداد الشاى بالدكان واحيانا كانوا يتناولون الطعام الذى قد تعرف من الذى ساهم به او لا تعرف , المهم الكل يأكلون و يتندرون و يضحكون و يعيشون الحياة ,
و ذات يوم ,اذ هم مجتمعون و كان عم خليفة المراكبى جالسا بينهم و عم خليفة يتميز بوجه بميل للاسمرار مفتول العضلات و له القدرة على ان يثب الى الماء بثيابه او بغير ليزيح المركب الكبيرة للعمق حتى تستطيع العوم و يتسلق الصارى ليفرد القلوع و يهبط بسرعة ليمسك بالدفة و هو يغنى حتى تصل المركب للشاطئ الاخر من النهر فيثب فى الماء و يجر المركب بحمولتها من ناس و بهائم و بضائع ليجعلها تقترب من اليابسة و تصل (المرمة ) سقالة عريضة مثبتة يمر عليها المعدون و اذا بعم خليفة يدخل فى رهان مع احدهم اذا تناول ربعة نخال بالعسل يحصل على قرش و القوم يشجعون و اتوا له بربعة نخال و كوب كبير من العسل و اتى عم خليفة على الخليط و القوم يقهقون و فاز عم خليفة بالقرش و حمل لقب المدب منذ تلك الواقعة حتى اصبح اسمه فى طى النسيان و لازمه هذا اللقب الذى لم يثر امتعاضه بل تقبله بروح رياضية حتى انك لو تأخرت ليلا فى الجانب الاخر من النهر فما عليك الا تنادى ( يا مدب ) فاذا بصوت يجيبك (عندك .. انا جاى لك ) و طبعا هذه البطولة و هذا اللقب لم يأتيا بسهولة فقد اصيب عم خليفة يومها بتلبك معوى و عانينا الامرين فى علاجه و معظم من زاروه كانوا يقدمون له اكل و سجاير يسألونه اخبارك يا مدب فيجيب ضاحكا و الله مشتاق للعسل
فى الجزء الثانى سأروى لكم ما حدث مع عم الشيخ
و حتى نلتقى
استودعكم الله و اتمنى لكم و للعالم كل خير و صحة
عبده مرقص عبد الملاك سلامة
عبده مرقص يكتب المدب و قصة أخرى : ( من الذاكرة )
