« قراءة في كتاب الفن القصصي في القرآن الكريم »
بدايةً أودُّ أن أوضحَ أنَّني لست هنا لإقرارِ أو إنكارِ ما جاء في كتابِ ” الفن القصصي في القرآن الكريم ” للدكتور ” محمد أحمد خلف الله ” ،ولكن كلَ ما أرمي إليه هو قراءةٌ لكتابٍ أثار جدلاً واسعاً ، وربَّما يجبُ على كلِ من يقرأُ الكتابَ أن يعي جيداً ما جاء فيه بكلِ موضوعيةٍ ، لا أنكرُ تخوفي بدايةَ الأمرِ من الخوضِ في الكتابةِ عنه والبحثِ فيه وتدوينِ معظمِ الآراءِ والكتاباتِ ، ومنها أذكرُ ما عرضه الدكتور” سعيد الشحات ” حولَ الكتابِ وما أتخذ معه من مواقفٍ قد تكونُ مؤيدةً وقد تكونُ رافضةً ، فيذكرُ منها ما جاء على لسانِ الكاتبِ ” توفيق الحكيم ” حينَ علق على الكتابِ بقولِه ” الذى لست أفهمُه هو موقفُ أساتذةِ الجامعةِ المصريةِ الذين يحكمون بالكفرِ على طالبٍ ، ويطفئون بأيديهم الجامدةِ مِشعلَ الحريةِ الفكريةِ الذى هو صلبُ عملِهم وعمودُ رسالتِهم “
وقدْ أرسل الشيخُ ” أمين الخولي ” رداً علي ما أثاره الكاتبُ ” توفيق الحكيم” في جريدةِ ” أخبار اليوم ” خلالَ شهرِ نوفمبر 1947، دفاعاً عن تلميذِه “محمد أحمد خلف الله” ، يشهدُ كلُ حرفٍ فيه علي ضراوةِ المعركةِ بينَ التقليديين والمجددين ، ولأهميته عرض ” الشحات ” نصَ ما قاله ” الخولي ” كما جاء :
“منذ حوالي عشرين عاماً ، وأنا أدرّسُ القرآنَ الكريمَ في كليةِ الآدابِ من حيث هو كتابُ العربيةُ الأكبرُ، وقد اطمأننت إلي أنَّ الفهمَ الأدبي له يجبُ أن يتقدمَ علي كلِ رغبةٍ في استفادةِ عقائدَ منه أو أخلاقٍ أو أحكامٍ قانونيةٍ ، فاتخذت لهذا الدرسِ منهجاً أدبياً خالصًا أذعته ومضيت أضعُه بينَ يدي طلبةِ الجامعةِ ، وأفرغُ من نقدِهم له وتمثلِهم إياه ، ثُم أتقدمُ لدرسِ موضوعٍ من القرآنِ تطبيقاً عليه ، أدعُهم بعده ليتابعَ الدرسَ من له رغبةٌ خاصةٌ في دراسةِ هذا الكتابِ العظيمِ ، وقد جعل غيرُ واحدٍ من الطلابِ دراستِه العليا في موضوعاتٍ قرآنيةٍ ، فكتب واحدٌ رسالتَه للماجستير في ” نشأة التفسير واتجاه تطوره” وآخرٌ في “وصف القرآن ليوم الحساب ” وثالثٌ في “إعجاز القرآن” كما كتب ” محمد خلف الله أفندي ” رسالتَه للماجستير في “جدل القرآن ” ، واختار رسالتَه في الدكتوراه في” الفن القصصي في القرآن الكريم ” .
إنَّنا حاولنا ردَّ درسِ الجامعةِ للبلاغةِ إلي الميدانِ الأدبي ، وإبعادَه عن الفلسفةِ وما أصاب البلاغةَ من جمودِها وجفافَها ، فغيرنا من هذا الدرسِ ما غيرنا ، ودعونا البلاغةَ فنَ القولِ ، لنذكّرَ دائمًا بأنَّ الأدبَ قولٌ فنيٌ لا يخرجُ منهم درسُه عن الأفقِ الوجداني ، فكان إيثارُنا لهذا سببَ تسميةِ رسالةِ ” خلف الله” ” الفن القصصي في القرآن الكريم ” ، وتقدم “خلف الله” لدرسِ قصصِ القرآنِ علي المنهجِ الأدبي الذي لا يمكنُ أن تعني كليةُ الآدابِ بغيرِه ، والقصصُ في هذا المنهجِ لونٌ من ألوانِ البيانِ ، وأسلوبٌ من أساليبِ الأداءِ قد مضي فيه كتابُ العربيةِ الأعظمُ ، ومعجزتُها القوليةُ علي خطةٍ له هي التي حاول “خلف الله ” تعرفَها في رسالتِه تفصيلاً .
فعرض أولَ ما عرض لما بينَ التاريخِ والقصصِ من صلةٍ ، وماجري عليه القرآنِ في هذا ، واطمأنَّ أخيرًا إلي أنَّه ليس قصصًا لتعليمِ التاريخِ ، ولا سردَ وقائعِه مرتبةً مستوفاةً لتعرفَ منها الحقائقَ التاريخيةَ ، ولذلك لا يلزمُ أن تكونَ كلُ حوادثِ القصصِ القرآني قدْ وقعت ، بل منها ما هو تصويرٌ وتمثيلٌ للمعاني ، واطمأنَّ لهذه النتيجةِ بالاعتمادِ علي مقرراتٍ دينيةٍ تتصلُ بالمحكمِ والمتشابهِ وما إلي ذلك .
وبحسب أن أقررَ أنَّها مقرراتٌ فرَّع الأستاذُ الإمامُ ” محمد عبده ” منذ أكثرِ من أربعين عاماً من تقريرِ ما هو أوسعُ منها وأبعدُ مدي ، إذْ انتهي من أنَّ القصصَ القرآني فيه ما هو مثلٌ لا قصةٌ واقعةٌ ، ومن أنَّ للمؤمنِ حقَ تأويلِ هذه القصصِ علي أساسِ أنَّ القرآنِ يعبرُ عن المعاني ، ويصورُها بالحكايةِ وأسلوبِ الحوارِ، كما فرغ من أنَّ وجودَ شيءٍ في قصِ القرآنِ لا يقتضي صحتَه، لأنَّه يحكي من حالِ الأقدمين الصحيحَ والفاسدَ ، والصادقَ والكاذبَ، ولأنَّه يجري تعبيراتَه علي معروفِهم ومنظورِهم ولوكان خرافياً ، كوصفِ الشيطانِ في قوله تعالي ” طلعها كأنها رءوس الشياطين” ومسّ الشيطانِ في قوله تعالي” الذين يأكلون الربا ، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس” ، فليس في هذا وصفٌ لصحيحٍ من أمرِ الشيطانِ أو مسه ، بل أوَّل الأستاذُ الملائكةَ بالأرواحِ والقوى ، والشياطينَ وإبليسَ بدواعي الشرِ، وعرض في بيانٍ طويلٍ لتأويلِ قصةِ ” آدم ” كلها في سورة ” البقرة ” ثُم أثر التأويلَ علي التسليمِ بحقيقةِ هذه الأشياءِ والأحداثِ ، مقررًا أنَّ المؤولَ أعلي كعباً في الإيمانِ ممن يسلمُ ، لأنَّه أكثرُ اطمئناناً وأقلُ تعرضًا للشكوى .
تلك هي أمُ المسائلِ التي أنكرها من قرأوا الرسالةَ في الجامعةِ ، ولم يجتمعوا لمناقشةٍ في ذلك كما يقتضي نظامُ تأليفِ اللجانِ لتقديرِ الرسائلِ ، ثُم ما لبثوا أن اشتعلوا في العنادِ ، فانطلقوا من طلبِهم تعديلِ بعضِ فصولِ الرسالةِ مع تقديرِهم لجوانبِها السليمةِ إلي طلبِ تطبيقِ أحكامِ الردَّةِ علي صاحبِها ، وتسرب الأمرُ إلي الخارجِ بيدِ منْ – لا أعرفُ – فتلقَّف ناسٌ أخبارًا طائرةً ، وحكموا علي مالم يروا ولم يقرأوا ، بل أخفوا ما عُرِف ونُشر، فكتب من سمو أنفسِهم “جبهة العلماء” في عددِ 741 و742 من مجلةِ ” الرسالة ” عن بحثِ ” خلف الله ” أمر جد خطير، وعدُّوه “وباء أشنع من وباء الكوليرا”، وتوالي مثل هذا الاتهامِ علي غيرِ أساسٍ ، و” خلف الله ” يكذبُ ، ويبينُ ويتحدى ، فيضيعُ صوتُه في ضجيجٍ عامي وأهوجٍ “.
يختتمُ ” الخولي ” رسالتَه إلي “الحكيم” بقولِه : ” المحنةُ كما تري عقليةٌ ، وهذا أهونُ جوانبِها ، ثُم هي خُلقيةٌ واجتماعيةٌ : خلقيةٌ لأسبابٍ أيسرُها ، أنَّ الذين قرأوا الرسالةَ تقوَّلوا عليها بما يستحيلُ أن يكونَ فيها ، واجتماعيةٌ تدفعُ مصرَ في سُلمِ الرقي منْ أعلي إلي أسفلٍ ، فجامعتُها ترفضُ اليومَ ما كان يُقرَرُ بينَ جدرانِ الأزهرِ ويُنشَر
منذ أربعين عامًا ، وتُخضِعُ البحثُ للأوهامِ لا للإسلامِ ، وأزهرُها يسمعُ رجلاً يُعلنُ أنَّ ربَه اللهُ ، ورسولُه محمدٌ ودينُه الإسلامُ ، وكتابُه القرآنُ ، وأنَّه إنما يَفهمُ في القرآنِ السماوي فهماً ما ، بل يفهمُ في متشابهِه فهماً ما ، فلا يُقال له ، أخطأت أو أسرفت أو .. أو .. بل يُقال له قبلَ أي تحرٍ أو تثبتٍ ( كفرت ) ، ولماذا ؟ لأنَّك جعلت القرآنَ فنًا ، ويضيف الخولي : ” الأمرُ إنكارٌ للحقِ الطبيعي للحي في أن يفكرَ ويقولَ وإنَّه لحقٌ عرفنا الإسلامَ يقررُه ويحميه ، فلو لم يبق في مصرَ والشرقِ أحدٌ يقولُ إنَّه علي حقٍ ، لقلت وحدي وأنا أُقذَفُ في النارِ إنَّه حقٌ ، لأبرِأ ضميري ، ولا أشاركُ في وصمِ الإسلامِ اليومَ هذه الوصمةِ “.
جريدةُ الإخوانِ ” تطالبُ “خلف الله” بالتوبةِ وتجديدِ عقدِ زواجِه والبكاءِ مدى الحياةِ .. والباحثُ يردُّ : مستعدٌ لحرقِ الرسالةِ بيدي لو ثبت فيها ما يعارضُ الإسلامَ والقرآنَ .
قدَّم ” خلف الله ” ردودًا وشروحًا لكلِ ما أُثير ضده ، لكن كلَ هذا لم يوقفْ الهجومَ عليه ، يكشفُ ” نصر حامد أبوزيد ” في دراستِه المنشورةِ في الكتابِ التذكاري ” الجامعة المصرية والمجتمع ” : ” أرسل الاتحادُ العامُ للمنظماتِ الإسلاميةِ رسالةَ احتجاجٍ إلى الملك ” فاروق ” وأرسلت نسخًا منها إلى كلِ من رئيسِ الوزراءِ ووزيرِ المعارفِ ، ومديرِ الجامعةِ ، وعميدِ الكليةِ ، وشيخِ الأزهرِ ، يطالبُ فيها الموقعون تقديمَ كلٍ من ” خلف الله ” و” الخولي ” إلى محاكمةٍ أمام الدائرةِ القضائيةِ المستعجلةِ لجرائمِهم فى حقِ الإسلامِ والقرآنِ . والمنظماتُ الإسلاميةُ المندرجةُ فى الاتحادِ العامِ هي : جمعيةُ الإخوانِ ، جمعيةُ الشبانِ المسلمين ، جمعيةُ أنصارَ السنةِ ، جمعيةُ الشريعةِ ، وجمعيةُ الأخلاقِ الحميدةِ “.
كتب ” خلف الله ” إلى جريدةِ ” جمعية الإخوان ” أنَّه على استعدادٍ لحرقِ أطروحتِه بيديه لو ثبت تتضمنُها لأى شىءٍ يعارضُ الإسلامَ أو القرآنَ ، كما أعلن عن استعدادِه لمناقشةِ ” أحمد أمين ” ، وردت جريدةُ الإخوانِ : ” لو صحت العباراتُ المنسوبةُ إلى الرسالةِ لما كان حرقُها كافيًا حتى لو تمّ فى حضورِ كلِ أساتذةِ الجامعةِ وطلابِها ، بل يجبُ على صاحبِ الرسالةِ أن يتوبَ إلى اللهِ توبةً نصوحةً ، ويعلنُ العودةَ إلى الإسلامِ ، ويجددُ عقدَ زواجِه إن كان متزوجًا ، الأهمُّ من ذلك أن يحرقَ الشيطانَ الذى أملى عليه هذا الشرِ، وأن يظلَّ يبكى مدى الحياةِ لعلَّ اللهَ أن يغفرَ له “.
توالى الهجومُ وتوالت الردودُ من ” خلف الله ” ، ولم يهدأ الجدلُ بعد قرارِ الجامعةِ برفضِ الرسالةِ ، حيث أثار” توفيق الحكيم ” القضيةَ في عدةِ مقالاتٍ خلالَ شهر نوفمبر 1947 فى ” أخبار اليوم ” وجمعها في كتابِه ” يقظة الفكر”، وأطلق عليها وصفَ ” النكسة الجامعية” ، وتلقى من أطرافِها رسائلَ نشرها في مقالاتِه ، وفي رسالةِ ” خلف الله ” شرحُ القصةِ ، واختتمها بالتنبهِ والتحذيرِ : ” إنَّ الدراسةَ الجامعيةَ لا تستقيمُ إلَّا مع الحريةِ ، وإنَّا لنعجبُ كيف يكونُ الأساتذةُ الجامعيون قادةَ الرجعيةِ فى البيئاتِ العلميةِ ، وكيف لا يشعرون بأنَّ ذلك الخطرَ كلُ الخطرِ على التقدمِ العلمي فى هذه الديارِ، ولعلَّ العجبَ يأخذُ حدَه ويبلغُ منتهاه حينَ نعلمُ أنَّ تلك الرجعيةَ لا يقرُها الدينُ ولا يرضى من رجالِه العلماءُ ، هذه هي قضيةُ النكسةُ الجامعيةُ “
الشيخُ ” أمين الخولي ” مدافعاً عن تلميذِه : ” لو لم يبق في مصرَ والشرقِ أحدٌ يقولُ أنَّه علي حقٍ لقلت وحدي وأنا أُقذَفُ في النارِ إنَّه حقٌ لأُبرِأَ ضميري”
يضيفُ ” خلف الله ” ، أنَّ الشيخَ ” أمين الخولي ” كان يقولُ : ” إنَّ الأستاذَ الإمامَ الشيخَ ” محمد عبده ” ، وضع حجرَ الأساسِ لهذه الدراسةِ عندما ذهب إلى أنَّ القرآنَ الكريمَ يجبُ أن يُفهمَ على الأساسِ الذى كانت تفهمُه عليه العربُ وقتَ نزولِه، من حيث فهمِ الألفاظِ اللغويةِ والعباراتِ الأدبيةِ .
يتذكرُ : ” كنت أسمعُ هذه الكلماتِ فتمتلئ نفسى بها ، وكنت أشعرُ شعورًا داخليًا قويًا بأنَّني من دونِ زملائي الراغبُ فى هذه الدراسةِ والقادرُ عليها ، كنَّا ندورُ فى محيطِ المفاهيمِ القرآنيةِ ، وماذا أبقاه القرآنُ الكريمُ على حالِه؟ وماذا أخرجه وأعطاه معنى مجازيًا أو معنى دينيًا ؟ ، كان هذا العملُ يستلزمُ التعرفُ على استخداماتِ الألفاظِ فى القرآنِ الكريمِ كلِه وإلَّا جاء ناقصًا ، كنت شغوفًا بهذه العمليةِ ، وكنت من المتقنين لها ، وكنت أعدُّ نفسى لمتابعةِ الدراسةِ فى هذا الميدانِ ، ووقع ما كنت أُحدِثُ نفسى بها ، فلم أكدْ أتخرجُ حتى التحقت بالدراساتِ العليا ، وتخصصت فى الدراساتِ القرآنيةِ بالذاتِ ، كان موضوعُ دراستي الأولى لنيلِ درجةِ الماجستير هو ” جدل القرآن ” ، وهو الكتابُ الذى نشرته فيما بعد تحتَ اسم ” محمد والقوى المضادة “، من حيث أنَّ هذه القوى المضادةَ هي التى كانت تثيرُ الجدلَ حولَ ” محمد ” -عليه السلام – ، وحولَ ” القرآن الكريم ” ، وكان موضوعُ رسالتي الثانيةِ لنيلِ درجةِ الدكتوراه ” الفن القصصي فى القرآن الكريم ” ، وكنت أولَ من اقتحم ميدانَ الدراساتِ القرآنيةِ من بينَ طلابِ ” قسم اللغة العربية بكلية الآداب”.
هكذا يوضحُ ” خلف الله ” رحلةَ تخصصِه البحثي الذى جاء فى مدرسةِ ” تجديد الفكر الديني ” فى تفاعلِها مع مقتضياتِ الواقعِ العربي الحديثِ ، بوصفِ الدكتورة ” يمنى طريف الخولي ” فى كتابها ” أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد ” ، مؤكدةً أنَّ ” الخولي ” بتجديدِه للفكرِ الديني كان سائرًا فى طريقٍ سبق أن ترسمت معالمُه، وتشكلت تضاريسُه فى خريطةِ الفكرِ العربي الحديثِ ، وبفعلِ جهودٍ دؤوبةٍ لروادٍ أسبقَ ، يتقدمُهم بجدارةٍ الشيخُ ” محمد عبده ” الأستاذُ الإمامُ ، إمامُ المجددين ، وقائدُ جيشَ الهجومِ على التقليدِ الذى هوى بمعولِه على معاقلِ المرضِ الخبيثِ مرضِ الجمودِ على الموجودِ ، وكان سلاحُه الماضي فى كفاحِه التجديدي هو تآخى الدينِ والعقلِ فى الإسلامِ ، على هذا النهجِ مضى ” أمين الخولي ” ، وتلميذُه ” محمد أحمد خلف الله ” لكنَّهما نالا عقابَهما الذي خسرْنا بسببِه كثيرًا.. فكيف حدث ؟ .
فى مقدمتِه للطبعةِ الثانيةِ من ” الفن القصصي فى القرآن الكريم ” التى صدرت عام 1953، يكشفُ الدكتور “محمد أحمد خلف الله ” ما حدث مع رسالتِه العلميةِ لنيلِ درجةِ الدكتوراه من ” جامعة القاهرة ” والجدلِ الذي أُثيرَ حولَها ووصل إلي حدِ اتهامِه بالكفرِ ، يقول : ” أنَّ الرسالةَ حينَ عُرِضَت على لجنةِ التقييمِ لتحديدِ موعدِ المناقشةِ ، أبدى أعضاءُ اللجنةِ رضاهم عن مستواها الأكاديمي مع اقتراحِ بعضِ التعديلاتِ ، لكن بعضَ المعلوماتِ عن الرسالةِ تسربت إلى الصحفِ ، وكان هذا بدايةَ الجدلِ الملتهبِ عن الرسالةِ والمنهجِ ، وقوانينِ الجامعةِ التى تسمحُ بإجازةِ مثلِ هذه الرسالةِ فى مجتمعٍ مسلمٍ ، أثيرت شائعاتٌ عن رفضِ ” أحمد أمين ” – أحد أعضاء اللجنة – للرسالةِ بسببِ ضعفِها العلمي ، وأُشيع أيضًا أنَّ العضوَ الثاني ” أحمد الشايب ” قرر أنَّ الرسالةَ تتضمنُ أفكارًا تتعارضُ مع العقيدةِ ، خصوصًا الزعمُ بأنَّ القصصَ القرآني مجردُ سردٍ أدبى ، قيل أيضاً أنَّ الطالبَ فى الفصلِ الخاصِ بالمصادرِ زعم بأنَّ القصصَ القرآني مأخوذٌ من مصادرٍ توراتيةٍ وأسطوريةٍ .
حدث ذلك يوم – 31 أكتوبر1947، حيث أصدرت ” الجامعة المصرية ” قرارًا برفضِ رسالةِ الدكتوراه لــ ” خلف الله ” ، بعنوانِ ” الفن القصصي فى القرآن الكريم ” ، وتحويلِ صاحبِها إلى عملٍ إداري ، وحرمانِ واحدٍ بقيمةٍ عظيمةٍ في تاريخِ الفكرِ الإسلامي المستنيرِ هو الشيخُ ” أمين الخولي” المشرفُ على الرسالةِ من تدريسِ علومِ القرآنِ أو الإشرافِ على رسائلَ تتصلُ بالقرآنِ ، يذكرُ ” أبوزيد ” : ” استند قرارُ الجامعةِ فى معاقبةِ الأستاذِ على أنَّ قرارَ تعيينه بدرجةِ أستاذٍ فى 6 أكتوبر 1946 كان تخصيصًا لكرسي ” الأدب المصري ” ويضيفُ ” أبوزيد ” : ” يُقال أنَّ معاقبةَ المشرفِ كان استجابةً لاستجوابٍ قدَّمه عضوٌ فى البرلمانِ لوزيرِ المعارفِ عن مصيرِ الأستاذِ الذى أشرف على هذه الرسالةِ ” .
انشغل الرأي العامُ المصري بمثقفيه وسياسيه وصحافتِه وجامعتِه وأزهرِه وأحزابِه بهذه القضيةِ التى عكست صراعَ المقلدين والمجددين فى الجامعةِ وخارجِها ، يروى ” خلف الله ” باختصارٍ بدايةَ قصتِه التى قادته إلى ما حدث معه فى هذه الأزمةِ ، يذكرُ فى كتابِه ” مفاهيم قرآنية ” سلسلةِ عالمِ المعرفةِ : ” علاقتي بالموضوعِ تبدأ فى الثلاثينيات من القرنِ الماضي ، عندما كنت طالبًا بقسمِ اللغةِ العربيةِ بالجامعة المصرية يومذاك ، قائلاً : ” كانت هناك مادةٌ دراسيةٌ هي الدراساتُ القرآنيةُ ، وكان الذى يقومُ بتدريسِ هذه المادةِ الأستاذُ الشيخُ ” أمين الخولي ” ، كان ينهجُ منهجًا جديدًا فى الدراساتِ القرآنيةِ التى تليقُ بكليةِ الآدابِ التى كان يجبُ أن تقومَ على أساسٍ من دراسةِ القرآنِ دراسةً أدبيةً ، كان يقولُ : لقد درس الفقهاءُ القرآنَ ، ودرس اللغويون القرآنَ ، ودرس البلاغيون القرآنَ ، ودرس الفلاسفةُ وعلماءُ الكلامِ القرآنَ ، ولكنَّ الأدباءُ لم يقوموا بهذه الدراسةِ ، على الرُغمِ من أنَّ القرآنَ الكريمِ معجزةٌ أدبيةٌ فى المقامِ الأولِ ، وكان يقولُ : أنَّ الأستاذَ الإمامَ الشيخَ ” محمد عبده ” وضع حجرَ الأساسِ لهذه الدراسةِ “.
وفي سياقِ مخالفٍ ومن خلال بحثي وراءَ ما جاء حول الكتابِ فقد رأيت أن أعرضُ لكم رأي الدكتور ” حسن محمود برعي غنايم ” في كتابِه ” القصة القرآنية بين الفن والتاريخ في تفسير المحدثين .. محمد أحمد خلف الله نموذجا ” حيث يقولُ : نستطيعُ أن نقولَ : أنَّ المؤلفَ ضلَّ الطريقَ ، وأساء الفهـمَ والتفسيرَ ، وخلط الأمورَ، وهذا الخلطُ أدَّى به إلى التخبطِ في المنهجِ والهلاكِ فيه ، وقد توقف عنده أهلُ التقوى من علماءِ المسلمين بالردِ المطولِ والرفضِ التامِ ، بينما تلقاه كثيرٌ من المستشرقين بالإعجابِ الشـديدِ والتقـديرِ العظـيمِ ، ولا أعرضُ هنا لتفصيلاتِ القبولِ والرفضِ ، وإنما أوجزُ الإشارةَ هنا إلى جهـودِ المسلمين في ذلك ، فقد رأوا في هذا الموقفِ طعناً على الحقيقةِ التاريخيةِ في القرآنِ الكريمِ ، وتشبيهًا لكلامِ اللهِ بكلامِ البشرِ، مع أنَّ اللهَ تعالى يصفُ كتابَه وقصصَه فيه بأنَّه الحـقُ ، قـال تعـالى : « إن هـذا لهـو القصـص الحـق » [آل عمران/٦٢] ، وقال تعالى : «نحن نقصُّ عليك نبأهم بالحق»[الكهف/۱۳]، وقال تعالى: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق»[الفتح/۲۸]، فهـو قصـصٌ يجلُّ عن المعاني المخترعةِ التي لا تتصلُ بالواقعِ ، ولا تصـفُ مـا أظلـه الوجود، شأنُ الفنِ القصصي في أدبِ الناسِ ، وليس أبعدَ من كتابِ ” خلـف الله ” عن البصيرةِ والرشدِ ، ولا أبعدَ منه عن الحقِ والصدقِ ، ولا أبعدَ منـه عـن الدعوةِ إلى اللهِ سبحانه الذي يقولُ الحقَ وهو يهدي السبيل ” .
وقد تلقَّف بعضُ المستشرقين هذه الرسالةِ بالإعجابِ العظيمِ ، ورأوا فيها محاولةً جديدةً للنهضةِ بالتفسيرِ في مصرَ، وجهدًا جادًا لتخليصِ القصـصِ القرآني من العنصرِ التاريخي ، وتأثرًا مؤكداً بالنظرياتِ الغربيةِ فـي علـمِ النفسِ والاجتماعِ ، وساق بعضُهم من نصوصِها ما يريدُ أن يستدلَ به علـى أنَّها الدراسةُ الأدبيةُ الوحيدةُ في التفسيرِ الحديثِ ، وأنَّ ما قوبلـت بـه مـن معارضةٍ يدلُ في زعمِهم على تحكمِ الرجعيةِ الدينيةِ فـي حركـةِ التفسيرِ الحديثةِ .
أما في مصرَ، فقد صادفت هذه الرسالةُ ما تستحقُ مـن نقـدٍ وتفنيـدٍ وصارت مثلاً على ضلالِ المنهجِ الذي يتبعُه التخبطُ في نتائجٍ غيرِ مسددةٍ ، فالمؤلفُ عندما استولت عليه فكرةُ فنيةِ القصصِ القرآني وانتشى بها ، ودفع بهذا القصصِ إلى ساحةِ الفنِ ، وأخذ يحكمُ فيها بمقاييسه وأحكامِه ، أدى بـه ذلك أن ينزعَ عنه صفةَ الصدقِ ، لأنَّه فنٌ وليس كتابَ تـاريخٍ أو علـمٍ ، ولا يُطلبُ منه أن يعني بالحقائقِ التاريخيةِ والعلميةِ ، وحسبه أن يلتـزمَ أصـولَ الفنِ ، ولا ضيرَ عليـه إذنْ أن يلحقَـه القصـصُ الأسطوري والتمثيلُي والتخيلي .
في ضوءِ ذلك، فإنَّنا نقررُ بوضوحٍ أنَّ رسالةَ ” خلـف الله ” زلت قـدمُ صاحبِها، فانزلق تحتَ تأثيرِ الدراسةِ الفنيةِ للأدبِ – كما دعا إليها الخولي – إلى مزالقَ خطيرةٍ ، ويؤكدُ المؤلفُ أنَّ تأثرَه بأستاذِه كان الـدافعَ وراءَ هـذه الرسالةِ – كما ذكر في تمهيده لدراسته – وذكر أنَّ دروسَ ” الخولي ” هي الدافعُ الأساسي لمنهجِه – مجلة مركز البحوث والدراسات الإسلامية (العدد34) – ولا أريدُ أن أستطردَ في ذكرِ آراءِ المعارضـين حـتـى لا يمتـدُّ بنـا الجدلُ مع المؤلفِ ، وحتى لا يطولُ بنا المقامُ ممَّا لا يحتملُـه هـذا البحـثُ
ممَّا سبق نستطيعُ أن نقررَ أنَّها كانت معركةً تنتمى إلى جنسِ معاركَ كتابي ” الشعر الجاهلي ” للدكتور طه حسين ، وكتاب ” الإسلام وأصول الحكم” للشيخ على عبدالرازق ، وأنَّ هذا الكتابَ يدرسُ القرآنَ باعتبارِه نصٌ أدبي فني و مُعجزٌ له منهجٌ رصينٌ في القصصِ لا يقفُ عندَ حدودِ اللفظِ الضيقةِ ولا يعيرُ لحوادثِ التاريخِ أي اعتبارٍ، يتولاها الكاتبُ في هذا المنهجِ بالعرضِ والتحليلِ والبيانِ بشكلٍ شاملٍ وممتعٍ وعبقري .
إنَّ الكتابَ يدرسُ مصادرَ القصصِ في القرآنِ ويحللُ الألوانَ القصصيةَ المتعددةَ الواردةَ فيه ” التاريخية والتمثيلية والأسطورية ” ويدرسُ ما جاء فيه من ” شخصيات وأحداث وحوار و مناجاة ” ثم يستطردُ فيعرض لك تطورَ الفنِ القصصي القرآني إذ هو انعكاسٌ ومواكبةٌ لنفسيةِ الرسولِ ” محمدٍ ” واتباعِه وأعدائه طوالَ فترةِ الدعوةِ .
ويرى ” خلف الله ” أنَّ هناك اختلافاً في القصةِ القرآنيةِ الواحدةِ باختلافِ السورِ ولكنَّك تجدُ ضمنَ السورةِ الواحدةِ عدداً من القصصِ لعدةِ رسلٍ تتشابهُ في الموضوعِ والحوارِ والغرضِ ، كما يرى الكاتبُ أنَّ القرآنَ الكريمَ هو كتابٌ ونصٌ (أدبي ديني) صنعه أديبٌ ليس كمثلِه شيءٌ ، وهذا النصُ له خصائصُه الفنيةُ الخاصةُ ، غرضُه الموعظةُ والعبرةُ والهدايةُ والإرشادُ ، ولتحقيقِ هذا الغرضِ كان للنصِ القرآني عنايةٌ فائقةٌ باستثارةِ عواطفِ القارئ والسامعِ وتهيئةِ خيالِه وفؤادِه .
ومن خلالِ القراءةِ نجد أنَّ أسلوبَ الكاتبِ جامدٌ و ليس باليسيرِ وأظنَّه لا يحسنُ تبسيطَ فكرتِه بأسلوبٍ أمتعَ وألينَ ، كما يعرضُ الكتابُ وجهةَ نظرٍ مختلفةٍ للنظرِ إلى القصةِ القرآنيةِ بدايةً بأكثرَ الأفكارِ التي تناولها إشكاليةً وهي ” علاقة القرآن بالتاريخ ” وهذا هو جوهرُ رسالتِه إلى بيانِ كيف تكونُ القصةُ أداةً في خدمةِ الدعوةِ الإسلاميةِ ، ويمكنُ اختزالُ أفكارِ الكتابِ إلى عدةِ أفكارٍ رئيسةٍ :
أولها : القرآنُ نصٌ أدبي ومثله مثل النصوصِ الأدبيةِ لا يقصدُ منه معانيه الحرفية ولكن يقصدُ منه الأغراضَ والمقاصدَ .
ثانيها : حرصُ القرآنِ على موافقةِ العقلِ العربي لا مخالفتِه في أغلبِ الأحوالِ .
ثالثها : القرآنُ كتابٌ تفاعلي يعتمدُ على الأحداثِ الجاريةِ وحواراتِ المشركين ونفسيةِ الرسولِ عليه الصلاةُ والسلامُ وذلك كما يقولُ النصُ القرآني ” لنثبت به فؤادك ” .
وبهذا تصبحُ مشكلاتُ التفسيرِ المتعلقةِ بالقصصِ وانتقاداتِ الملحدين بلا معنى إذْ أنَّهم وضعوا النصَ في غيرِ محلِه ، لكنَّني أظنُّ أنَّ الكاتبَ تأثر كثيرًا بدراستِه فكان يتحدثُ بثقةٍ كبيرةٍ وبعضِ المغالاةِ أنَّ النصَ لا يقصدُ منه إلَّا الأغراضَ الدينيةِ فحسب ، وأظنُّ أنَّه بذلك وقع في خطأ من انتقدهم بأنَّهم قولبوا النصَ في قالبٍ واحدٍ فقط ، ومع ذلك ، فالكتابُ جميلٌ جداً حتى وإن اختلفت مع وجهةِ نظرِه بخصوصِ التاريخِ لا يفوتكم بقيةُ أفكارِه .
وهنا حري بنا توضيح الآتي : إنَّ رفضَ فكرةِ الكتابِ قبلَ قراءتِه و استهجانِه يعدُّ سوءَ فهمٍ ، و لكن مع القراءةِ والإمعانِ فيه و قراءةِ الأمثلةِ التي أوردها من كتابِ اللهِ واستشهد بها لبيانِ فكرتِه التي وصل إليها ربَّما تصلُ في النهايةِ لإحدى نتيجتين : استهجانِ ورفضِ الكتابِ أو تصديقِ فكرتِه واستحسانِه ؛ لذا أنصحُ بالقراءةِ الواعيةِ للكتابِ .
وفيما يلي نقدم نبذة عن الكاتب وأمثلة من الكتاب
محمد أحمد خلف الله (1904- 1989)
برز اسمُ ” محمد أحمد خلف الله ” سنة 1947 إثرَ مناقشةِ رسالتِه للدكتوراه عن ” الفن القصصي في القرآن الكريم” تحتَ إشرافِ أستاذِه في التفسيرِ ” أمين الخولي ” بجامعةِ ” فؤاد الأول – القاهرة حاليًا ” حيث أثارت هذه الرسالةُ ردودَ فعلٍ عديدةٍ رافضةٍ لما جاء فيها وصلت حدَ التكفير، إلاّ أنّ ” محمد أحمد خلف الله ” لم يرضخْ للحملةِ التي قامت ضدَه وضدَ أستاذِه ، وقام بنشرِ رسالتِه سنة 1953 لتتوالى طبعاتُها مراتٍ عدةٍ ، و” محمد أحمد خلف الله ” من تلاميذِ الأزهرِ حصل على الإجازة سنة 1939، ثم التحق بكليةِ الآدابِ ” قسم اللغة العربية ” و تخصَّص في الدراساتِ القرآنيةِ وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه ، ومن أبرزِ أساتذتِه ” طه حسين ومصطفى عبد الرازق وأحمد أمين ” فضلاً عن المشرفِ على أطروحتِه الشيخ ” أمين الخولي ” الذي وجهه نحوَ الاهتمامِ بالجانبِ اللغوي والبياني في بحثِه مع الاستفادةِ من علمي الاجتماعِ والنفسِ ، ومن مؤلفات ” محمّد أحمد خلف الله ” ” القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة ” و” القرآن والدولة ” و” القرآن والثورة الثقافيّة ” و” هكذا يبنى الإسلام” و” محمد والقوى المضادة ” وهو في الأصلِ نصُ رسالتِه لنيلِ درجةِ الماجستير، وكان عنوانُها الأصلي ” جدل القرآن” وله أيضاً ” الأسس القرآنية للتقدم ” و” مفاهيم قرآنية ” وغيرها من المؤلفات ، شغل ” محمد أحمد خلف الله ” وظائفَ التدريسِ بكليةِ الآدابِ ، ومعهدِ الدراساتِ العربيةِ التابعِ لجامعةِ الدولِ العربيةِ ، وعمل وكيلاً لوزارةِ الثقافةِ المصريةِ .
أمَّا عن الكتابِ نستطيعُ أن نقولَ : ما تجده في هذا الكتابِ هو الكشفُ عن الصورِ الأدبيةِ في القصصِ القرآنيةِ ، تلك التصاويرُ الرائعةُ التي تربطُ الصورةَ الفنيةَ بالفكرةِ والقيمةِ الاخلاقيةِ والعقليةِ ، وفي جانبٍ آخرٍ شكَّل هذا الكتابُ ضجَّةً فكريةً قرآنيةً حينما كشف النقابَ عن عدمِ ضرورةِ أن تكونَ القصةُ القرآنيةُ تاريخيةَ الحدثِ بمعنى أنَّ القرآنَ في فنِ سردِ القصصِ غيرُ مَعنيّ بحقيقةِ القصةِ من جهةِ تاريخيتِها في حدوثِها من عدمِه ، ولكنَّ بؤرةَ التركيزِ القرآني في القصةِ على الجانبِ الأدبي الذي يلامسُ الروحَ والوجدانَ ويحركُ القلبَ والعاطفةَ لتكونَ مقوماً لحركةِ الفكرِ والعقلِ .
ومِنَ الأمثلةِ التي نقدمُها من الكتابِ على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ
جاء في كتابِ ” خلف الله ” :
أما قصة أصحاب الكهف فنقف منها في هذا الموطن عند مسألتين : الأولى مسالة عدد الفتية والثانية مدة لبثهم في الكهف ، من حيث العدد فليس يخفى أن القرآن لم يذكر عددهم في دقة وإنما ردد الأمر بين ” ثلاثة رابعهم كلبهم وخمسة سادسهم كلبهم وسبعة وثامنهم كلبهم ” ، وليس يخفى أيضا أن القرآن الكريم قد ختم هذه الآية بتلك النصيحة التي يتوجه بها إلى النبي عليه السلام وهي قوله تعالى « قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحداً » ، ما معنى هذا الترديد في العدد ؟ وما معنى هذه النصائح ؟ ، لا نستطيع أن نقول أن المولى سبحانه وتعالى كان يجهل عدد الفتية من أهل الكهف و أنه من أجل هذا لم يقطع في عددهم برأي فالمولى سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وإنه ليعلم السر وأخفى ، وإنما نستطيع أن نقول أن هذا لم يكن إلا لحكمة والحكمة فيما نعتقد أن المطلوب من النبي عليه السلام أن يثبت أن الوحى ينزل عليه من السماء وأن يثبت ذلك لا بالعدد الحقيقي للفتية من أصحاب الكهف فذلك لم يكن موطن الإجابة وإنما بالعدد الذي ذكره اليهود من أهل المدينة للمشركين من أهل مكة حين ذهب وفدهم ليسأل عن أمر محمد أنبي هـو أم متنبي ، وإذا كان أحبار اليهود قد اختلفوا في أمر العدد وذكر كل منهم عدداً معينا كان على القرآن أن ينزل بهذه الأقوال حتى يكون التصديق من المشركين بأن محمدا عليه السلام نبي ، ولو ذكر القرآن العدد الحقيقي وأعرض عن أقوال اليهود لكان التكذيب القائم على أن محمدا لم يعرف عدد الفتية وليس وراء هذا إلا أن الوحى لا ينزل عليه من السماء . ومثل هذا تماما موقف القرآن من عدد السنين فلم يذكر القرآن العدد الحقيقي وإنما اكتفى المولى سبحانه وتعالى بما يعرفه اليهود ومن هنا نصح النبي عليه السلام بأن يقول « الله أعلم بما لبثوا له غيب السموات والأرض » ولسنا بحاجة إلى أن نقول هنا أيضا بأن العـلى القدير لم يعرض عن عـدد السنين الحقيقي إلا لحكمة وأن هذه الحكمة هي أن يكون ما يذكر في القرآن الكريم مطابقا لما قاله اليهود للمشركين ، وهذا هو الذي أشار إليه الأقدمين من المفسرين ، جاء في ” الطبري ” . . . فقال بعضهم ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن أهل الكتاب أنهم يقولون ذلك كذلك واستشهدوا على صحة قولهم ذلك بقوله « قل الله أعلم بما لبثوا » وقالوا لو كان ذلك خبرا من الله عن قدر لبثهم في الكهف لم يكن لقوله « قل الله أعلم بما لبثوا » وجه مفهوم وقد أعلم الله خلقه مبلغ لبثهم فيه وقدره .
موقف القرآن من قصة أصحاب الكهف موقف من لا يحكى الحقيقة التاريخية وإنما يحكى أقوال اليهود التي قد تطابق الحقيقة وقد لا تطابقها ومن هنا لا يصح أن يتوجه أي اعتراض على هذه القصة من حيث اختلافها مع الواقع لأن تحقيق هذا الواقع ليس المقصود من القصة في القرآن الكريم وسنزيد هذه القصة بياناً وإيضاحا في الباب الثاني إن شاء الله
وأما قصة ” ذي القرنين ” فقد سبق أن شرحنا أن القرآن إنما يصور في هذه القصة وبخاصة عند حديثه عن غروب الشمس ما يراه القوم بأعينهم وبعبارة أخرى يعبر القرآن عن مصورات القوم كما يستطيعون رؤيتها لا حقيقة ما يقع وإذا كنا سنقف عند هذه القصة في الباب الثاني لنثبت أن القرآن إنما صور في هذه القصة ما كانت تعرفه الجماعة العربية عن ” ذي القرنين ” وعن غروب الشمس من طريق السمع وأنه صور مسموعاتهم لا مبصراتهم ، فإننا سنقف هنا لنرى رأينا في مذهب القرآن البلاغي ، فهل كان يقيم تشبيهاته واستعاراته كما كانت تقيمها العرب على العرف والعادة أو كان يتطلب الحقيقة العقلية ليقيم عليها بيانه العربي من تشبيه واستعارة ومن كناية وتمثيل ؟ .
كان القرآن يجرى على الصور الذهنية أو على الواقع النفسي في تشبيهاته واستعاراته حين يتحدث عن جهنم ويصف طعامها وشرابها وحين يتحدث عن الذي يتخبطه الشيطان من المس ، جاء في ” الرازي ” عند تفسيره لقوله تعالى « طلعها كأنه رؤوس الشياطين » ما يلى [ وأما تشبيه هذا الطلع برؤوس الشياطين ففيه سؤال لأنه قيل أننا ما رأينا رءوس الشياطين فكيف يمكن تشبيه شيء بها ؟ ، وأجابوا عنه من وجوه الأول وهو الصحيح أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح والتشوية في الصورة
فكما حسن التشبيه بالملك عند تقرير الكمال والفضيلة في قوله « إن هذا إلا ملك كريم » فكذلك وجب أن يحسن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح و تشويه الخلقة ]
وجاء في ” الكشاف ” عند تفسيره لقوله تعالى « لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس » ما يأتي [ لا يقومون إذ بعثوا من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان أي المصروع وتخبط الشيطان . زعمات العرب يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع والخبط الضرب على غير استواء كخبط العشواء فورد على ما كانوا يعتقدون ، والمس الجنون ورجل ممسوس وهذا أيضا من زعماتهم وأن الجنى يمسه فيختلط عقله وكذلك جن الرجل ضربته الجن ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات ] .
القرآن يجرى كما ترى في فنه البيان على أساس ما كانت تعتقد العرب وتتخيل لا على ما هو الحقيقة العقلية ولا على ما هو الواقع العملي ولعله أن يكون من ذلك حديث القرآن عن المنافقين في قوله تعالى « إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك رسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون » فنراه يقيم تكذيب المنافقين على أساس ما يعتقدون لا على أساس ما هو الحق والواقع فلقد كان المنافقون يعتقدون أن محمدا غير مرسل من ربه وكان الحق والواقع أنه رسول وقول المنافقين له إنك رسول الله يتفق مع الحق ويختلف وما يعتقدون ومن هنا رماهم القرآن بالكذب وحذر النبي عليه السلام منهم ، والقرآن يجرى على هذا المذهب أيضا حين يتحدث عن الجن وعن عقيدة المشركين فيهم وأنهم كانوا يستمعون إلى السماء ليعرفوا أخبارها ثم يقومون بعد ذلك بإلقاء هذه الأخبار على الكهنة وكان الكهنة يدعون الاطلاع على الغيب ومعرفة الأسرار ، يجرى القرآن على هذا المذهب الأدبي في محاولته هدم عقيدة المشركين السابقة
ولو أن ” الرازي ” فطن من أول الأمر إلى أن القرآن إنما يحارب هذه العقيدة ويحاربها بأسلوبه الخاص القائم على فكرة التدرج وأن هذا التدرج يشبه تماما التدرج في التشريع في مسألة محاربة الخمر وغيرها وأن النسخ في التشريع إنما يعلل بهذه الفكرة لو فطن ” الرازي ” إلى كل هذا لما أتعب نفسه وأتعب غيره في هذه الوقفات الطويلة ولقال بأن القرآن إنما يأخذ الناس بتصوراتهم وأنه في هذا الموقف قد سلم بهذه العقيدة لا لأنها حق وصدق وإنما لأنه يريد أن يهدمها تدريجيا فيسلم بها أولا ثم يأخذ في هدمها مستعينا بالزمن .
أعتقد أن قـد اتضح الآن أن القرآن كان يأخذ الناس بتصوراتهم ويأخذهم بالعرف والعادة و أنه كان يفعل هنا ما كان يفعله في أمور التشريع ، أخذ الناس بعاداتهم ومن تغيير هذه العادات تدريجيا الأمر الذي من أجله كان النسخ في التشريع ، وأعتقد أن قد وضح أيضا أن القرآن قد قص في القصص التي كانت موطن الاختبار لمعرفة نبوة النبي عليه السلام وصدق رسالته ما يعرفه أهل الكتاب عن التاريخ لا ما هو الحق والواقع من التاريخ وأنه من هنا لا يجوز الاعتراض على النبي عليه السلام وعلى القرآن الكريم بأن بهذه الأقاصيص أخطاء . أعتقد أن قد وضحت هذه الأمور وسنزيد هذه المسائل بيانا ووضوحا في الباب الثاني إن شاء الله ، وقبل أن نختم هذا الفصل نلفت ذهن القارىء إلى أنه إذا وضح لديه الوضوح الكافي بأن القصة القرآنية قد قصد منها إلى التاريخ فأنه يتعين عليه أن يؤمن بما جاء فيها على أنه التاريخ وذلك كتقرير القرآن لمسألة مولد “عيسى ” عليه السلام و تقريره لمسألة ” إبراهيم” عليه السلام وأنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ، أما تلك التي يقصد منها إلى العظة والعبرة وإلى الهداية والإرشاد وأنه لا يلزم أن يكون ما فيها هو التاريخ فقد يكون المعارف التاريخية عند العرب أو عند اليهود وهذه المعارف لا تكون دائما مطابقة للحق والواقع ، واكتفاء القرآن بما هو المشهور المتداول أمر أجازه النقد الأدبي وأجازته البلاغة العربية وجرى عليه كبار الكتاب ومن هنا لا يصح أن يتوجه اعتراض على النبي عليه السلام أو على القرآن الكريم .
وهنا سوف نعرض الخاتمة والتي قال فيها ” خلف الله ” :
رسالة الفن القصصي في القرآن الكريم رسالة تنتهى بالقارئ إلى هدفين رئيسين :
الأول منهما : درس أدبي أو بلاغي فني للقصة یکشف عن بعض أسرار الإعجاز ، لأنه مذهب القرآن الكريم في بناء القصة ، فيبين الألوان القصصية من تاريخية وتمثيلية وأسطورية ، وكيف كان القدماء يفهمون كل لون ويفسرونه ، وإلى أين انتهى بهم هذا الفهم وهذا التفسير ، ويبين أيضاً طريقة القرآن الكريم في توزيع العناصر القصصية أي في هندسة القصة ، وكيف كان هذا التوزيع للعناصر يتبع الظروف والمناسبات ويتأثر إلى حد كبير بالدعوة الإسلامية في تدرجها وترقيها ، ثم يبين مذهب القرآن الكريم في رسم الأشخاص وتصوير الأحداث وإقامة الحوار وكيف كان يجعل العنصر الواحد من الأحداث والأشخاص محوراً تدور حوله أكثر ، وأخيراً هو درس أدبي بلاغي يكشف عن مذهب القرآن القصصي وعن العوامل النفسية التي كان يقيم عليها القرآن أسس الاستهواء ، وعن النواميس الاجتماعية التي كان يرد إليها القرآن السبب في قوة الدعوة الإسلامية وفي صحتها وسلامتها من قصة .
أما الهدف الثاني : فقد كان الانتهاء من هذا الدرس إلى قاعدة أو نظرية تفسر لنا مواقف الكفرة والمشركين من القصص القرآني وتحل لنا هذه المشكلات الكثيرة التي وقف عندها المفسرون ، ثم تعمد في النهاية
ومن الحكاية إلى تفسير موقف المشركين والذي يقوم على ذلك الأساس الذي قال به ” الرازي ” ثم ” النيسابوري ” عند تفسير كل منهم الآية الكريمة , « بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » من سورة يونس وهو الأساس الذي يقول بأن هؤلاء الكفرة قد نظروا القصة إلى هيكلها وجسمها ، ولم ينظروا منها إلى الجوهر إلى التوجيهات الدينية والخلقية وإلى الأسس النفسية والنواميس الاجتماعية ، ولو أنهم نظروا هذه النظرة الأخيرة ، لما وقفوا عند الأحداث والأخبار من حيث هي تاريخ ، ولما هذه الوقفة إلى القول بأن القرآن أساطير الأولين ، ولما عارضوا القرآن حين عارضوه بالقصص التاريخي ، ولعرفوا في النهاية أن القصص القرآني لا يقصد إلا إلى التوجيهات الدينية والخلقية ، وإلى تقرير الدعوة الإسلامية ، وإقامة هذا التقرير على الأسس النفسية والنواميس الاجتماعية ، وعند ذلك كانوا يعترفون حتما بأنه وحى الله وأنه تنزيل الحكيم الحميد . دفعت رد جميع الاعتراضات التي يتقدم بها المستشرقون والمبشرون ومن لف لفهم أو نحا نحوهم من الزنادقة والملاحدة وكل طاعن على النبي أو في القرآن الكريم .
وحل مشكلات المفسرين يقوم على ذلك المذهب الذي لفت الأستاذ الإمام إليه الذهن عند تفسيره لقصص آدم وهاروت وماروت من سورة البقرة ، وهو المذهب الذي يقرر بأن القصص القرآني يصح أن يفهم فهماً أدبياً بلاغياً ، وأنه لا يجوز أن يفهم فهماً تاريخياً ، ولقد كان المفسرون يذهبون هذا المذهب في كثير من المواقف ، وكانت المشكلات تحل عندهم على هذا الأساس ، ومن تفسيرهم لقصـة داود والملكين من ذلك سورة ص وتفسيرهم لقول اليهود عن عيسى إنه رسول الله وغير هذين مما سبق أن ذكرناه .
أما الرد على الملاحدة والزنادقة ، وعلى المستشرقين والمبشرين فيقوم على أساس أن القرآن الكريم كان يقيم بناء القصة على ما يعتقده المخاطب ، وعلى ما تتصوره الجماعة من مسائل التاريخ وليس ذلك إلا لأنه يريد الهداية والإرشاد ويقصد إلى العظة والعبرة ، ولا يقصد إلى تعليم التاريخ أو نشر وثائقه بحال من الأحوال ، والمذهب الذي جرى عليه القرآن الكريم مذهب أدبى مقرر تعرفه جميع اللغات ويجرى عليه العمل عند جميع الأدباء ، ثم هو مذهب التفت إليه كثير من المفسرين ، فقال به بعض القدماء ممن روى ” الطبري ” أقوالهم عند تفسيره لقصة أصحاب الكهف ، وقال به الأستاذ الإمام عند حديثه عن قصة “هاروت وماروت ” وقال به علماء البلاغة من المسلمين حين اكتفوا باللزوم العرفي أي بالعرف والعادة واعتماد المخاطب في مسائل البيان ولم يتطلبوا اللزوم العقلي أي الحق والواقع .
ذلك هو مذهب القرآن القصصي وهو مذهب يرد على هؤلاء جميعاً اعتراضاتهم ذلك لأنهم يبنون هذه الاعتراضات على أساس المخالفات التاريخية مخالفات القصص القرآني لمـا أثبته الكشف التاريخي وقال به المؤرخون من غير المسلمين وهو بناء لا يستقيم مع هذا العرف الأدبي الذي قررناه ذلك لأن الذي يعاب على القصاص هو المخالفة التاريخية الصادرة عن جهل بمسائل التاريخ وقضاياه أما تلك التي تصدر عن مذهب اعتقاد المخاطب ليتخذ وسيلة إلى ما وراءه فأمر لا يعاب وبخاصة إذا كان هذا الكشف التاريخي قد جاء بعد قرون وقرون ، وأمثال هذه
المخالفات لا تضير القرآن في شيء ، لأنه لم يدل على أنه قد قصد إلى التاريخ وإلى تعليمه للناس ونشر وثائقه . هذا هو رأينا ، لك أن تخالف فيه ولك أن تقره ، وليس بيني وبينك إلا هذه الآية الكريمة : « قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني » .
النهايةِ أرجو أن أكونَ قدْ وفقت في تقديمِ قراءةٍ لكتابٍ يستحقُ الدرس والتحليلَ الأدقَ دونَ إغفالِ دعوتي لقراءةِ الكتابِ ” الفن القصصي في القرآن الكريم ” قراءةً واعيةً وبكلِ موضوعيةٍ حتى يتسنى لنا الإلمامُ الجيدِ لما جاء فيه من آراءٍ وأفكارٍ حريٌ بنا إن نعيها وندركُها قبلَ الحُكمِ عليه لأنَّ في الحُكمِ دونَ قراءةٍ للكتابِ وإدراكٍ لأفكارِه عياً قدْ يُبنَى عليه سوءُ فَهمٍ وقدْ يُعدُّ صرفاً من الجمودِ .
بقلم سمير لوبه
قاص وروائي وناقد أدبي