رؤية أخرى للنار.
لامست كف النار بيدي. ولا أظن الأمر هذيان مني، فأنا كالجميع كنت معتقدًا بأن النار حفرة شديدة العمق، أضرمت فيها أطنان من أخشاب وورق حتى اشتعلت بهذا القدر… حتى لقيتها في الطريق، كانت بقدمين تسير، ولها تسعة أياد تمدها أنى شاءت، وتلقف من أرادته بقوة وحزم.
ولما كنت قريبًا منها لامستني، قالت لي بهدوء: يا فتى شكرًا… وصافحتني.
ولما أرادت الرحيل أوقفتها مستفهمًا عن سبب الشكر.
فقالت لي، كنت أسكن أرضًا غير الأرض، محبوسة في حفرة سحيقة الأعماق، ويلقي حثالة البشر أوراقهم ونفاياتهم بداخلي، واختطف فقط من استطعت اللحاق به وهو على حافة الحفرة، حتى أتيتني أنت بقصيدة جسدتني فيها، وأعدت تشكيل أطرافي، وأقدامي، وهيئتي. لم تكن القصيدة الأولى التي ألقيت بداخلي، غير أنها كانت تختلف عن كل ما قرأته من عبث الشعراء وجنونهم.
كانت قصيدة فيها من الشر ما أعاد تشكيلي، وفيها من الغضب ما أشعل رغبة انتقامي، وفيها من الموت ما أجبرني على ملاحقة الحمقى.
وأنت سأتركك هكذا، باقيًا لتعيد صياغتي من جديد، بشكل التقم به الأرض وما عليها في بطني، بحيث لا يشفع لأحد سجود بداخلي، ولا ينتفع أحد بدعوة. فالبشر جميعهم من أصل مارد شيطاني يستحق النار.
كنت أرتجف من لهيبها، إرتجاف الخائف التائه المحموم. وكانت تقترب مني اقتراب عاشق متيم.
وكنت أخبئ خلف ظهري قصيدة نسجتها في ليل طويل مضى بعقلي في ذكرياته الهشة، مجسدًا فيه النار بخفة شبح تطير، وتحيط الأرض بذراعي أم مات رضيعها بغتة، وبقوة إعصار تفتك بالحياة، وبسرعة البرق تظهر وتختفي… فخشيت أن ألقي فيها قصيدتي.
ولما عرفت أنها خلقت بفضول لا تفتر قوته، رميت لها بقصيدة أخرى، كنت كتبتها لفتاة أردت لقاءها في الصباح، لأخبرها أن نيران قلبي واشتياقي إليها أغرقاني بدمع أغرق الحياة داخلي بفيضان وموت…
قرأت النيران قصيدتي، كنت قد اختفيت في قاع سفينة رست على شاطئ خلقته بخيالي، ليصل حافة الأرض بحافة السماء، قبل أن أسمع دوى شهقة عظيمة وصراخ لا مثيل له، إذ أن النار بكت نحيبًا، فأصبحت رمادًا من دمعي المشتاق.
صديقتي أنا أهذي كثيرًا لاستعرض قوة واهية بجسدي الضعيف وعقلي المنهك… أنا راحل في الصباح بلا رجوع، ولا أمل، ولا غاية.