د.إيهاب بديوي يكتب قراءة في همس الجنون لنجيب محفوظ


زخم العمل الأول وتزاحم الأفكار. إرهاصات التميز . قراءة في قصة همس الجنون من مجموعة همس الجنون أول مجموعة قصصية لنجيب محفوظ 1938

…………………


تتزاحم الأفكار وتتصارع الشخصيات في عقل الكاتب عندما يكتب عمله الأول. يحاول التعبير عن ذاته المعذبة غير المكتشفة في كلماته الأولى. وتظهر البراعة كلما استطاع الكاتب مقاومة تمرد الكلمات وتهذيبها والسيطرة على صراع الأفكار وتحديد الأولويات فيها. لكنه في غالب الأحوال لن يتمكن من السيطرة الكاملة على كل أدواته. ورغم ذلك. نستطيع أن نميز بوضوح بين الغث والسمين. هناك أساسيات تظهر مع ميلاد أول عمل للكاتب. قدراته السردية وفنياته الأدبية ولغته التعبيرية وصوره الجمالية. يميل الكاتب عاد للفلسفة والعمق الفكري في عمله الأول. ويكون حصيلة سنوات كثيرة من الأحلام والإنتظار. يبدو ذلك جليا في مجموعة همس الجنون للعبقري نجيب محفوظ. قد يفاجأ البعض بأن أول أعمال الروائي العظيم هي مجموعة مكونة من 28 قصة وليست رواية. لكن ذلك يثبت أن السارد المتمكن قد بدأ الكتابة مبكرا. وأكاد أجزم أن هذه المجموعة هي حصيلة منتقاة لأفضل ما كتبه خلال السنوات السابقة على النشر. ومتيقن من أننا لو فتشنا في أوراق نجيب محفوظ القديمة سنجد محاولات بدائية اختار ألا ترى النور. لكن. مهما كانت المحاولات الأولى ساذجة من وجهة نظر الكاتب خاصة إذا احترف الكتابة وتميز فيها. فلابد أن ترى النور وتوضع في إطارها الصحيح لتكون دليلا لكل من يأتي بعده. سأختار القصة التي تحمل عنوان المجموعة. الحقيقة أنها فاجأتني. تعبر بوضوح عن تمرد الشباب في كل زمان ومكان. محاولات مستميتة للتخلص من كل القيود التي تمنع الإنطلاق. أكاد أرى الشاب نجيب محفوظ معانيا من عدم القدرة على إطلاق حلمه الكبير. مقيدا بالعائلة والوظيفة والمجتمع والتقاليد والأعراف. تبدأ القصة من الخانكة. المكان المهيأ لوضع المرضى النفسيين. ثم يدخل بنا الكاتب في غمار المغامرة التي وصلت بالبطل إلى هذه النهاية. يحاول التمرد على واقعه. منذ الصباح حين يتعجب من الأسباب التي تجعل شابا يخنق نفسه برابطة عنق وملابس تحد من حركته. يخرج ااشاب للشارع متأملا بعين جديدة كل ما يحدث. فيلفت انتباهه شاب وفتاة يجلسون في مطعم فاخر وبالقرب منهم شباب صغير معدم مقطع الملابس. نرى هنا بوضوح الإسقاطات الواقعية التي ميزت أدب نجيب محفوظ طوال عمره. قرر الشاب المتمرد التدخل هذه المرة. وسحب دجاجة من أمام الشاب والفتاة ثم ألقاها للمعدمين وانطلق يجري مصحوبا باللعنات والمطاردات. لكنه فرح. شعر أنه يتحرر من القيود لأول مرة في حياته. ذهب إلى مقهى فوجد شابا ضخما متباهيا بقوته فما كان منه إلا أن ضربه على قفاه بكل قوة. ورغم أنه لم ينجو هذه المرة وضربه الشاب القوي بكل قوة. إلا أنه لم يشعر بالألم. على العكس. شعر بالتحرر أكثر. انطلق سعيدا متحررا حتى وجد فتاة تسير مع رجل استفزته ملابسها فتحرش بها ثم نال ما ناله من الضرب والسب. الذي ملأ قلوب من يضربه خوفا أنه كان يضحك. ظل يضحك حتى تركوه. بعدها وجد ملابسه ممزقة فقرر التحرر الكامل من كل القيود وقطع ملابسه حتى أصبح عاريا تماما . كل ذلك حدث في يوم واحد. لكنه ناتج عن عمر كامل من الضغوط التي أسفرت عن انفجار مدو. كانت النتيجة وضعه في الخانكة. وهو سعيد!
بوضوح تتضح في هذه القصة ملامح التمرد في شخصية نجيب محفوظ. الثورة الكاملة على كل ما يكبله ويمنعه عن تحقيق أحلامه الكبرى. لقد قرر عدم الرضوخ. المعادل الموضوعي للتمرد في الواقع. وعلى الواقع. من يرى الصورة الكاملة في النهاية سيشعر بنبض الحرية يسري في كل جزء من جسده وهو يتخلص من كل ما يخنقه ويعوقه ويمنع انطلاقته. وتظل اللغة الأدبية المعبرة بسلاسة ووضوح عن المعنى عبر حبكة سردية غير مباشرة تحتمل الكثير من التفسيرات هي إحدى أهم ما يميز أدب نجيب محفوظ 💖💖

………………..
د. إيهاب بديوي…

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.