هاجر أحمد تكتب منذ غابت أمي


كُل شىء يتنفس ..الزرع ، السحاب ، الطُرقات ، الملامح ، يُخيل إلى أن كُل شىء يتنفس من خلال ثُقب صغير ، بعضٌ من العطب يسود المكان ..حتى أن الزرع يبدو ذابلًا ، و السحُب مُلبدة ، و الطرقات مشوشّه ، و الملامح كئيبة ..كأن الكون يحتج أو هكذا يُخيل لي .
كما يُخيل لي تمامًا أن أغصان الشجرة تمتد من النافذة ، تلتف حول عنقي بروية و تخنقني ببطء ، أزهُد النظر نحو السماء و يتبدد حُلمي بأن أسكنها ..أشعر كما لو أنني مُعلقًا بين السماء والأرض ، بين الحياة و الموت .
فى الليلة التي تسبق رحيله ، اقترب مني و همس : ” سلامٌ على الموت يوم يزورني ، و على وطنٍ وُلدَ من رحم الفُقد ..و اللعنة على مَنْ يرضخ !
دنى مني للحظات و احتضن يدي ، قبل أن ينغلق جفنه إلي الأبد ، ربما الآن هو الأبد .
فى تلك اللحظات التي ظننته غافيًا من فُرط التعب ، كان يتأرجح بين كفوف الموت ..صامدًا حتى و هو يحتضر ، و نسيتُ أن لا أحد يصمد أمام الموت ..و أن إن بلغتْ القوة مبلغها فما هي سوى ضعف .
لقد كان يُملى على وصيته الأخيرة ..لا ترضخ !
كلما تلقيت صفعة جديدة عُدتْ رافعًا رايتي ” أنا لم أنكسر بعد ! “
إنني أُجابه الماضي بِعثراته ، و حاضري غير مُجدي ، و المستقبل لا تتضح له أي ملامح ..أنا مُجرد شاهد على الحياة ، و لست أحياها .
أخبرني أبي ، أن جدى كان رجل حرب ..جُنديًا فى الجيش ، ابتلعتهُ حرب ، يُراودني السؤال احيانًا إن كان بطلًا كما يُطلق عليهم ؟! ..لربما كان مُرغمًا على الحرب ، ربما لم يمتلك الشجاعة ليتخلَّف لكنه كان يود ذلك ..لكن مَنْ ليس مُرغمًا على الحرب ، أيُ أحمق لا يرنو إلى السلام ؟!
و ربما كان ابن الأرض كما هو منذ اللحظة الأولى ..رُبما كان يرى نفسه فى ساحة القتال مُلطخًا بالدماء و فى وجوه الشهداء الذين تمتص الأرض دمائهم فى كل حين ..على الرغم من أنها لا تفعل هذا علميًا .
رأيت له صورة واحدة فقط كانت فى محفظة أبي ، صورة مشوهة الملامح أثر الزمن ..يرتدي الزي الرسمي لعسكري مصري فى الستينات ، رأسه مرفوع بشموخ و يديه مرفوعة فى التحية العسكرية المعتادة ، هناك ابتسامة مبتورة ..و عينيه تلمع بوميض الكفاح ..لقد أكد لي أبي مرارًا أنه كان شعلة مُتقدة من الحماس ..كان مستعدًا للموت من أجل السلام .
و كذلك كان أبي ، كان يُكافح شيئًا يغزو جسده بضراوة ، يفتك به فى سكون ظاهري ..لم أسمعه يأن أو يشتكي على الرغم من أنني متأكد أنه يتألم و يعاني ، و لكن على ما يبدو أنه قد أنشأ صداقة قوية مع المرض لأنه أدرك أنه معه مدى الحياة .
و لأنني لا أعي لأمي ، و لأن أبي أحبها بصدق ، حُبًا طاهرًا ..لم يُجازف بلقاء بين حقول الزرع العالية ..أو ببضع كلماتٍ من الغزل يخطها فى جواب ، يُخبرها مثلًا أنها صُنعت من فاكهة الشَّعرِ ، أو من ذهب الاحلام ..كما قال نزار ..هذا رائع ، لكنه سلك طريقًا أكثر جدية و طرق باب أبيها ذات عشية .كنت أسرق منه الكلمات عنها كلما سمح مزاجه بذلك ، و ذات مره سألته فحدثني ببيت شعر لنزار ” كلماتُنا فى الحُب تقتُل حُبنا إنَّ الحروف تموت حين تُقال ..”
هكذا قال نزار قباني ، و ربما لهذا لم يكتُب لها جوابات غرامية كما كنت أرنو ، و يبدو أيضًا أن أبي يحب نزار قباني ..انا أعلم .
اوه ..كدت انسى ، يقول جلال الدين الرومي ” دع روحك تجذبك بصمت إلي ما تُحبه ، فإنها لن تُضلك أبدًا ” و هذا ما نصحني به ..ربما خلاص الإنسان فى نفسه .
لقد انتظرني والداي سبع سنوات ، سبع سنوات من الدعاء فى جوف الليل و الابتهال فى الفجر و الكثير من الأعمال الصادقة لله بغية أن يرزقهم الله ولدًا صالحًا ..سبع سنوات و جدتي تنوح فوق رأس أبي أن يتزوج مرة أخري و تقترح عليه محاسن جارتهم و أنها تليق به و و يمكنها أن تُنجب الولد ..و ليست كأمي ، سبع سنوات و هي تقول أن أمي العائق ، تلك المرأة الثرثارة لطالما أردت أن تصمت و تكفُ عن الهذيان ..لكنها لا تصمت أبدًا ، أبدًا .
و بعد الانتظار الطويل جئت انا ، كأنني الأمنية المُحققة حقًا ، لكنني كنت مصحوبًا بكثير من العطب ..فى بداية الأمر ظنوا أنني أخرس ، لكنني لم أكن كذلك ..خمس سنواتٍ من عمري و لا يسمعون لي صوت ، هادئ تمامًا و وديع للغاية ..أذكر فى باطن عقلي المُشوش أن أول أحرفي نطقتها و أن أُقبل جبين أمي البارد يوم غروبها عن وجه الحياة ، انا مبتور ..مُثقل و متعب و كل شىء مصابٌ بعطب يسكُنني ، الثُقل ليس فى قدمي التي تأبي الحراك ..الثقل فى قلبي ، كُل الثقل هنا .
أيُ نهاية تليق بالنهاية ..لا أدري ..ستستمر الحياة ، و ستبقي روحي فى المنتصف ..و سأحاول أن لا انكسر و لا تغفو شعلة الحياة فى عيني ..رغم أنها غفتْ مُنذ الغياب الأول ..مُنذ غابت أمي .

الإعلان

2 Comments

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.