“لا شئ يصنع فرقا”
كان التلفاز يصدح بخطابات متباينة المعنى واللهجة، تختلف فأشعر بالاختلال والصداع.
ربما ضجت من صوته هذه الصور المسندة الى الحائط مثلما مللته انا فقررت الخروج.
بالخارج كان الليل معتادا مملوء بالأضواء والضوضاء والدخان… أنا الطفل الصغير الذي تربي علي خضرة الزرع ونضرة النبات قد سئمت تماما سفري بعيدًا عنهم كل هذا الوقت.
سئمت حتى أحرفي المتناثرة يمينًا ويسارًا
مللت صديقي الذي يقول لي دومًا:” الاصطدام بالبشر يصنع التجربة التي هي روح الفن وباعثه.” غير انني ايضا قد مللت هذا كله…
دعك مما قد مللته فأنا قد مللت نفسي وذاتي، ودعنا نعود إلى الليل ومأساته هاهنا…
هنا حيث اختلاط الموت والحياة في مشهد واحدٍ، تحده حيطان اربع، يسكن اليها أسرتين من الموتى، وأربعة أطفال صغار علي قيد الحياة -يسميها البشر بمقابر السيدة- هنا من حيث أقف أشاهدهم من شرفتي فألعن المكان وأعود إلى قريتي الصغيرة… لقد سئمت من العودة حقا كل حين… “لا شئ يستدعي انحناك” لم يكن لحنًا يشدو بصوت، بل كان موت يشدو بكبرياء وسؤال..
كيف ينحني أهل الموت؟!! لا عليك. دعك من اسألتي ولتنظر إلى الليل هنا.
مزيج من الضوضاء والأنوار…، سيارات تطلق لعنتها على الطرقات…، ضجيج لا ينتهي…، وبيوت تطلق أصحابها إلى الشرفات…، ومقاهٍ متشابكة الجدران والأصوات…، وأنا.
أنا ما الذي أتى بي إلى هذه الصورة!. لا أدري…
وددت لو امسك تراب الأرض بيدي وأخبره أنه سينبت عما قليلٍ وردةً أو ربما سنبلة قمحٍ، تخرج بحبات لدقيق يطعم أحد الأطفال الجائعين؛ غير أن الأرض هاهنا جامدة لا تنبت شيئا…؛ تمامًا كخطابات الساسة التي لا تجدي نفعًا.
“لا شئ يصنع فرقا” قالها شئ ما فاختلط الصوت بالضجيج فتركت الليل وعدت إلى التلفاز والحجرة… ليست حجرة لأحد المسجونين، وليست غرفة للعمليات الخاصة لأحد فرق المنبوذين من الشباب، فقط كانت غرفة كئيبة يصدح بها تلفاز صغير وبضع صور تلتصق بالحوائط وكتب… كتب كثيرة تملأ كل ركن بشكل غير منتظم توشي أنها مهجورة منذ الأبد… مهجورة!!! من قال هذا الأمر!! انهم أصدقاء مفضلون… ستتسائل بلا ريب عن سبب انشغالي بالتلفاز و ترك الكتب بهذا الشكل العشوائي… ولكن ماذا قد يجدي الجواب وأنا قد مللتني حقا…!!
فلتنم إذن… أو تصمت أبدًا هكذا ستقول فشكرًا لاهتمامك بي كل هذا الوقت… شكرا… فلتعد إلى سجنك على الحائط قبل أن تأتي الشمس وتكتشف انني اخبئ كل اصدقائي هنا… في بعض الصور.
إبراهيم جمال يكتب لا شيء يصنع فرقا
