مَشَت في الشَّوارع الممتدَّة مُسرعةً، كانت تَنظرُ حولَها بخوف كأنَّمَا أضَاعت شيئًا مُهمًّا، بلباسهَا المُمزَّق مرَّت بين الحُشُود الكثيرة، لم تكُن تملكُ من المَال ما يَكفيهَا لشرَاء غَير ذلك الفستان، و لم تكن لها غايَة غير أن تسترَ الأجزاءَ الفَاضحَة من جسَدها المُتعَب. جرَت بألوان ثوبهَا البَاهتة التي غَاب عنها توهُّجهَا و لهيبهَا، كَشَف لبَاسُهَا عن بعض الثُّقوب المُخبَّئة في زَواياهُ.. . بألوَان غَامضة تزيَّنت أو بالأحرى تستَّرَت، حاملةً بين أضلُعهَا برد الشتاء و حزن الخريف، جابت الشَّوارع برائحتهَا العفنة، دون أن تَخجلَ من مَلابسها المتَّسخة بمَا يَحملهُ هذا العالم من قذارة، كانت سَاقاها العَاريتان تَرتعشان من البرد القَارص، لم تستطع إخفَاء الفَتحة الأماميَّة لحذاءهَا المُمزَّق… و على الرَّغم من هذا مَشت بخُطى واثقَة، بقلبها المَكسور و بَطنها الخَاوية مَشت بين البُطون المُمتلئة و كل يتَذمَّر من رَائحتهَا السيَّئة و يَنظرُ إليهَا بنفُور… منهُم من أغلق أنفهُ و إبتعَد رافضًا المَشي في نفس الطَّريق مَعها، و منهم من لعَن وجُودها… أمَّا هي لم تأبه لنظَراتهم و تذمُّرهم و أنانيَّهم المفرَطة، لم تأبه لانتقاداتهم، لم تأبه لمن كان يرفع صَوته عمدا لإهانتهَا فهذا لن يَبعث في جسدها الدّفئ و لن يُعيدَ الدم لجسدهَا المُصفر من البرد …. لن يَسمح لها بحياة كالحَياة و لن يُنسيها مرَارة ما تُحس.. في لحظة صَمت عَابرة سَكت العالم من حولهَا.. توَقفت الصورة المُلوَّنة في عَينيهَا، جَمد الجسد الصَّغير الذي كان يَحويها.. سَقطت كما سَقط الالافُ غَيرها في صمت، توقفت الصورة من حَولها لكنَّها ظلَّت مُحافظة على حَركاتها المُعتادة للمارَّة..صَمت العالم فقط في أذنيها و إنتهت مُعَاناتها… ذهبت و لم يبقى غير ذلك الجَسد الجَامد مُمدَّدا على الرَّصيف دون حراك، لم يبقى يربُطها بالحياة شئ غير ذلك الثَّوب الذي أبت غسله حتى لا تلوث نقَاوة المياه بقذارة العالم.. أمّا يَداها الصغيرتان اللّتان طغت عليهمَا خُطوط سوداء غليظة فقد ظلَّت على حالها لتروي طهارة فقدت من أيدي غسلت بأَفخم أَنواع الصَّابون ..
أسماء شلبي تكتب عفن العقول
