تنويه
الشخصيات من وحيّ الخيال المتوهم بالحقيقة، فإذا اِرْتَدَتْ أي شخصية منهم ملابس الحقيقة فقط، بات الخيال عاريًا، وماتت الرواية، وإذا ألبست الشخصية الخيال بالحقيقة، ضاعت كلّ الشخوص، وتفرقوا داخل الرواية.
ملاحظة حساسة جدًا: أي تشابه مع شخصيات حقيقية، أو خيالية في واقعنا هو محض مصادفة، سواء كانوا أحياءً أو أمواتًا. خصوصًا الأديبة والشاعر.
الروايّة
إهداء
بعد أكثر من ستة وثلاثين عامًا على اختفاء الظاهرة:
أرسَلتُ لكِ اليوم مكتوبًا ينسخكِ، وضعته في زجاجة، وقذفتُ بها في هذا البحر الوسيع، وأنا أقف على حافة الموج، والزّبَد من أمامي، والشاطئ من ورائي.
وأنتِ على الضفَّة الأُخرى من روايتكِ الطويلة، ستقع الرسالة في يدكِ بعدما أُوَدّع كلّ شيء بالرحيل حتى أنا. أمّا أنتِ فأهجركِ بالعودة، وأغادركِ بالرجوع، ثُمَّ أفرُّ منكِ إليكِ، وأرحل عنكِ بكِ.
ستطالعين ذلك العمل ست مرّات؛ لكي يمسّ في قلبكِ شيئًا مكنونًا بداخل روحي.
وسنُصَنّف فـي رسائل القَدَر بالباحثين عن (الوجه المائل).
أنتِ تعلمين جيدًا مَنْ أنا
فيلسوف
اللا نهاية واللا تناهي ينتهيان ببداية جديدة! فكيف بي لَوْ لَمْ أوْلد في البدء! والحكاية وما فيها أنَّ الهوامش أهم من سرد الحكاية. لماذا أحذف كفيلسوف بعض ممّا تكتب صديقتي؟ ولماذا ينتهي ما يُكْتب إلى الزج في قمامة التذكار؟ آه. معذرة يا روحي. نسيت أن أُعرّفكِ على تلك الصديقة التي تذكرتها للتوّ. أديبة من طراز عالمي تعيش في دولة من العالم الثالث مكرر، تخطط لكتابة الخواطر القصيرة، وسطرت أكثر من مجموعة قصصية، ورواية طويلة جدًا تتجاوز السبعمائة صفحة! والمزية الأكبر أنّها من أسرة ثريّة تتمتع بهناء الرفاهيّة، بالإضافة إلى عملها مديرة تحرير لدار نشر ذات سمعة الأعلى مبيعًا. بالطبع. أنا لا أحسدها، فالأصدقاء يحبون الخير لبعضهم البعض، ولكنَّ الخير لن يأتي إليَّ أبدًا، فما المغزى من تفوهي به وهو يرفضني ويحوّل عيونه عني إلى جميع الأثرياء عداي. كأنّما القدر تحالف مع القضاء؛ لكي انشطر إلى نصف فقير يبحث عن خبز الأحلام، والفكر المادي الذي حصدته من ثقافتي كالمال المطروح في حفرة عميقة ساكنة بداخل جيبي المقطوع!
أنا الفليسوف العائش في عصر العلم التكنولوجي الذي يعدم وجود الفلسفة بمشنقة التطور. القيود والحدود والسدود ثلاثة معالم من حضارات العالم الحديث في المنطقة المحيطة بي! شعوري أحيانًا أنّني خُلِقتَ ميتًا. وأنّني إذا مُتْ مَيّتًا – بافتراض أنّ شخصي حيٌّ لا يُرزق هو مجرد افتراض – لن يؤثر ذلك على عالمي المأخوذ بلهفة التحيّر.
أنا منسيّ، محروم، لقيط العشق. نجم سقط مرهقًا من مداراته المكررة في بحرٍ ما؛ ليصبح بقايا سمكة مأكولة بواسطة قرش الظروف، إذا تبخّرت البقايا لن تجفّ روح البحر الأشبه بكولوسيوم مهدور الدماء على حوافه، ولن تشتكي أسماكه من نقص في شهوة الأنسال. أشعُرُ بتضائل ملحوظ، متناهي الخفاء، بحجم نصف جناح بعوضة خرجت توًّا من بيضتها الكبيرة عن طريق الخطأ، لا أهمية لي. فأنا مجرد نصف! حتى أنَّ بيضتي تعجلت باستيطان الخروج وأنا لستُ راغبًا فيه. أَشْعُرُ بالتشائم المميّز من ناحية النشأة، كأنّني خُلِقْتُ بلغة في روحي لا يعرفها عامة هؤلاء الذين يسكنون حولي. هناك شيء يحترق في أعماقي على مقربة من محطة مطافئ الذات الخالية من رجال الإطفاء. والاحتراق يُطعم التآكل بمضغٍ هازئ كأنَّ الحريق نشب في المحطة والرجال والمياه!
بصراحة. أنا لستُ مميزًا في أي شيء عدا الفشل، فشلي الأكبر تحصيل الأموال. المال، ثُمَّ المال، ثُمَّ المال. نجاحي كمحرر صحفي في منصة إلكترونية خاصّة بدولة مجاورة لا يساوي أي شيء طالما أنا متطوع. حصولي على جائزة تقديرية بلا مال. فعل بلا تقدير ويستحق الحرق بغاز نجس! عملي الثاني مندوب مبيعات يُحَاسَب بعد خمسة وثلاثين عميلًا. والعميل الذي يحمل ذلك الرقم بعت له عُمْرة واحدة، وجاء ثاني يوم لإلغائها! كذلك بعت بعد ذلك اليوم أربع عمرات متتالية لأربعة عملاء، وباءت كلّ المحاولات بنجاح الفشل، ومعاودة الإلغاء! تركت المهنة المؤقتة بحُجة الامتحانات، ورسبت في جميع المواد الهندسية عدا مادة هزيلة لا تضاف للمجموع الكُلّي للتقدير العام!
عامة. أنا لا أشبه قاطني وطني، البعض يظن أنّني كوري، أو ياباني، أو حامل لأي جنسية أخرى من شرق آسيا، وإذا بفمي الصغير، وأنفي الطويلة، وشعري الكثيف، وبقية ملامحي، وحتى عقلي. جميع ما سبق مختلف بقدر معرّف عن الجميع. أشعُر أنني وحيدٌ، في الحقيقة ليس لي إخوة أو أخوات. مغترب في الاغتراب بعد وفاة والدي. والأشد فزعًا من غربتي أن أكون لا منتمي مع أكثر الأشخاص الذين يجب أن أنتمي إليهم. لحظة. لحظة لوهلة. عليَّ أن أشرح ما يحدث لبعض الوقت. لا يوجد أشخاص اليوم. الجميع اختفى. لا. لا أقصد ذلك بتاتًا. لم يختفوا. هناك ظاهرة حديثة تسببت في انشطار روحي مع تفاعلات كيميا رومانسية لروح امرأة تكبرني باثني عشر عامًا. كنا نتخاطر بالأحلام كلّ ليلة، ونتخاطب بالأرواح في أطراف النهار. تصادقنا منذ عقد مخمور بالزمن الذي يَهْذي ويَشْرب، ومِنْ ثَمَّ يشرب الهذيان، ولا يُهْذِي. وبعدما يَسْكَرُ تمامًا لا يتذكر كيف يثمل النسيان؟ عرفنا بعضنا قبل أن يتعرف كلٌّ منا على الآخر. وأنا ماهيّة، أو روح الماهيّة، أو ذات لروح الماهيّة. مرئيٌّ بوضوح خارق للطبيعة. فقط إذا حَلِمَتْ بي تلك الصديقة المتأدبة قبل الأحلام المكتوبة على عينيها الحليمتين، فتبصر صاحبي الرئيس، أو ربّما ارتأت لأوهامٍ مرسومةٍ على خط اتصال ينتظر المكالمة الفائتة أثناء صَحْوٍ يتشابك بمكالمة قادمة مع ذكرى بعيدة، وأخرى متباعدة عن البعد. المكالمتان يختلطان بسرعة مهرولة في حاضري؛ لتفعيل الفيمتو ثانية الآتية عبر طريق ضوئي يذهب ويعاني من السير رغم ذهابه.
مُذْ فترة تحولتُ لشيء يحاول الحديث، كتبت رسائلًا كالقدامى من البشر، وبعدها تداولت المرويات وصولًا لتلك الرواية التي تعد مذكرة من بقائي الفاني، ولكنني مخطىءٌ في هذه النقطة. أنا لا أفنى. أنا في الجسد وأستطيع أن أكون خارجه تمامًا بدون شعور صاحب الجسد. أقتحم تنويم تلك الأديبة؛ لتحلم بحقيقة صاحبي. وكلّ منهما يعاني من الوحدة مثلي. وكلما كتبتُ لهما أكتشف أنَّ القلم الذي أخطُّ به بات شفافًا، وما زالت حروفه لا تُرى على الأوراق بالعين المُجردة. أراهما كما هما مثل مرآة ينظر الواحد فيها لنفسه. ولكنْ، من الصعب أن تتجزأ أعضاء المرآة لترى ذلك الواحد! ما وراء الوجوه هو ما خلف الوجوم الذي لا يعبث بالكلام. والأمام صار في خبر الكلمات يجتهد ليتحدث، ولكنْ، لا جدوى! فالأمر دومًا مُملّ، ويبوء صمته بثرثرة مع الخرس.
إنّني أحبّ كلّ واحد فيهما على حدّة، ولكنّني إذا تعمقت في التبصر اِلتقيت بتوأمه ماثلًا أمام وَجْهَتِي، فإذا رأيت الأديبة أرى من خلفها، أو من بين يديها صورة الشاعر مصغرة، وكذلك العكس بالنسبة للشاعر. أنا على حقّ في كل ما أظن بفتوى رؤياي. قريبًا. عليَّ أن أغترف من ظهوري زاوية حيّة لأي منهما؛ لكي يبصراني كخاطرة عابرة. وأصارحهما بوجود دخيلة تفرم وجودي الآن، وتبعث بإشارات كهرو روحية لاحتلالي قائلة:
بالفعل أنا لا شيء.
لن أقول لكِ العكس.
ولن أقنعكَ أنّك تمتلك قوّة جبّارة كامنة بداخلك.
أعلم ذلك تمام العلم.
هل أنت حيّ؟
أجبتُ في تأفف:
إذا ظهرتُ لأي فيلسوفة فأنا حيّ.
يا خبيث لا تضحك عليَّ؛ فأنا زوجتك.
غضبتُ في فأفأة:
ف…ف…فــ…أنتِ. أنتِ لست زوجتي.
سنتزوج بعد قليل.
ما معنى ذلك؟
حقيقة تفرض نفسها على كونك لست ميتًا.
هل عليَّ أن أعيد حديثي؟
نعم، نعم… لا تخبرني بما أعرفه.
سألتُ باستنكار:
ماذا تعرفين؟
أعرف أنّك تتنفّس، وتتحرّك، وتحاول أن تحدثهما.
فسألت باستحقار:
ومن حضرتك لتقحمي تدخلك اللذيذ؟
أنا زوجتك…
أعرف ذلك من قبل، لا داعٍ لتذكيري.
قاطعتني برويّة:
ولكنّي ما زلت مصرّة أنّك حيٌّ، وأنَّ الموازين انقلبت لديك. ما زلت مصرّة أنَّ حياتك وهم، وموتك حقيقة. صدّقني. لا أحب أن أحلف، فقط صدّقني.
ما الحل؟
تسألني الآن ما الحل؟ إذن. أنتَ اعترفت اعترافًا ضمنيًّا أنّك تصدق كلامي. تصدّق بالفعل أنّك ميّت. عفوًا. أقصد حيّ، وستموت.
قلت بدون تريث:
ما الحل؟ أخبريني وبسرعة لو سمحتِ.
ليس بهذه البساطة. الحل صعب جدًا يا زوجي، الحل تعجيزي. الحلّ لكي تستمر في حياتك…أنْ…أنْ…..
أنْ ماذا؟
أنْ تُحيي…
أحيي ماذا؟
تحيي الاختفاء، ولا تظهر لصاحبك، وتلك الأديبة.
أديبة
في تمام الساعة السادسة وست دقائق صباحًا بتوقيت الوطن استيقظتُ. لا وقت لدي على الدوام. ستصحو ابنتي؛ لتذهب للمدرسة. يا ليتها تفعل ذلك بمفردها. “هي كسولة كأمها” هكذا يعايرها زوجي السابق عندما تخلى عنها، وهاجر مع زوجته الجديدة وابنتيه إلى دولة أوروبية. وأخوها الذي أنجبته منذ عدة أشهر من زوجي الثاني مات فجأة. بلا مقدمات، ولا تمهيدات. ابني الصغير اللطيف قُتِلَ على يد الصدفة! لا مرض. لا نقص كالسيوم. لا اِلتهابات. ولا حتى شلل أطفال! وللأسف لن يصحو طفلي أبدًا. بل عليه أن ينتظر استيقاظ جسدي في صحوة الموت بجانبه!
وهذه الصدمة جعلت الرجل الثاني الذي وثقت به كلّ الثقة يخذلني ويستغنى عني دون تفكير. وبعد أيام وليالٍ شعرت أنني أخونه بخيالي، وأتخيل رجلًا مثل نيزك سقط من السماء إلى البحر. كيف أقابله في البحر وأنا لست من ساكنيه؟! أأتجهز بالخياشيم، والزعانف، وشعري الطويل المترنح حتى خصري؛ لأغطس في عمق المياه كحورية تبحث عن لعنة تصيب استمرارية الحُبّ بخلود المشاعر! لا تهمّ إمكانية الممكن. عمومًا، أرسل زوجي الثاني أول أمس رسالة نصيّة مفادها:
” كان علينا أن نتفاهم بأنّنا لن نتفاهم. “
لن أجيب. طوال حياتي وأنا شخصية لا تجيد فن المراوغة؛ لذلك لا أتحدث كثيرًا. لست مُفوّهة، ولا من النساء اللائي يتشدقن بالخطابة، وحديث المهادنة، وتزويق الحروف. صامتة لأبعد نقطة إلى ما لا مدى. لا أنتظر شيئًا من أحد. جربت كلّ شيء يتبلور في كلمتين متلازمتين: الخذلان والفقدان. وعانيت كثيرًا من العزلة والابتعاد، حتى وأنا متزوجة في كلتا الزيجتين ظلت العوازل النبضية تجتاح سماء قلبي بالضباب والغيوم. كأنّني مخنوقة ومكبلة في ضباب أعمى، ودمعاتي محبوسة في غيوم الكتمان. فلا ندى، ولا إمطار، ولا بَرَدْ!
قررت البارحة أن أتحدث مع زوجي الثاني، الذي يكبرني بست سنوات على الهاتف لنتفاهم، ويعود كلّ شيء كما كان من غير بذل أيّ مجهود من كلينا.
في أول مهاتفة: عفوًا لا يمكنني الاتصال بهذا الرقم. وفي الثانية: ظلّ هاتفه مغلقًا. وفي الثالثة: مغلقًا، أو مرفوعًا من الخدمة. وفي الرابعة: جرس بلا ردود. وفي الخامسة: رَدّ وصوته يتقطع على مدار مهاتفتنا، فأغلقتها، وعاودت الاتصال، فأجاب بنفس عائدة:
كيف حالك حبيبتي؟ اشتقتُ إليكِ يا روحي.
………….
عزيزتي. هل أنت معي؟
………….
أديبتي المخضرمة.
………….
محر…رتـــــي.. الأدبـيّـــة.
……………………….
هل تسمعينني؟
لتطلقني رجاءً.
أغلقت المحادثة الهاتفية، و…….
أمي! لماذا لم تأتِ إلى غرفتي؛ لتوقظيني.
رفعت رأسي إلى مصدر الصوت الطيوب. إنّها ابنتي الغالية. الوحيدة التي بقيت معي. قلت:
ما هذا يا بُنيتي؟
ماذا؟
لماذا أنتِ بوجهين؟
أمي! هل مازلت تحلمين؟
لا. بالتأكيد نعم.
قلتها متصنعة لصوت ناعس. فسألتني بسيمة من بشائر الذعر:
هل غسلتِ وجهكِ؟
سأفعل الآن.
قتلتُ الكسل بطعنتين في صدره وظهره، وسرعان ما قُمْتُ وأنا أنظر في المرآة لَمَحْتُ وجهًا مثل وجهي بالتطابق. بالتحديد. نسخة أخرى من وجهي بلا جسد. لم أخف، بل ارتعبت وجلة، وابتعدت عن مرآة الحمام. كنت أريد أن أصدر صوتًا متصارخًا منادية: النجدة. ولكنّني تسمرت مذهولة، ثُمَّ فتحت صنبور المياه بلهوجة؛ لأغسل عينيّ، وفركت فيهما ببطء هادئ. وأمعنت النظر مصعوقة من النتيجة. ذلك الوجه وأخيرًا غادر المرآة. هذه أضغاث أوهام، أو كوابيس متيقظة ومتربصة بانفلات الواقع، فالتفت مبتهجة بحبورٍ راضٍ، وخرجت من الحمام في سرور، وأنا ناظرة إلى ابنتي؛ لتعمير سعادتي، فصرختُ وأنا محدقة في وجهها. ماذا يحدث يا الله؟ فهي ذات وجهين بحق. والآخر ينسخ تفاعلات وجهها الحقيقي بحسم. ألمسهما معًا وهي مستغربة بعض الاستغراب. متحاورة بخوف عليَّ:
مالك يا أمي؟ ماذا تفعلين بجانب وجهي؟
انظري إلى اليسار يا حبيبتي.
قلتها وأنا ألهث فزعًا.
ما المشكلة يا أماه؟
انظري إلى اليسار لو سمحتِ.
اِلْتَفتتْ رأسها الكتكوتة على مَهْلٍ، وغشت ملامحها بغطاء الامتعاض. وباحت في تمتمة:
هل… أصابك… شيئًا… يا…….. أمي؟
لا. هل ترين أي شيء من حولك؟
لا.
وفجأة أخذ الوجه الثاني لابنتي يبكي وينتحب. ومرّة يجيء بإزاء وجهها ساعيًا أن يستوطنه، ومرّات يحاول أن يضع نفسه على ملامحها الأصليّة! احتضنتها على حين بغتة بقوة عنيفة، وجسدي بأكمله ينتفض ارتعاشًا كمخلوق بحري طُرِدَ عمدًا إلى البَرّ. وبحتُ بغريزة ما:
أرجوكِ. لا تبكِ يا حبيبتي.
أمي! أنا لا أبكي.
تمام. اذهبي إلى المدرسة.
حسنًا. لا تخافي. ستكونين بخير. ولكنْ. لا تفزعينني هكذا مرّة أخرى. أمانة عليك يا أمي.
طيب. طيب.
سطرتُ قُبْلتين على وجنتيها، ورسمتُ واحدة طويلة بين عينيها. وهي على الباب استدارت إليَّ، وظَهَرَ الوجه مرّة أخرى بسحنة مختلفة عمّا مضت، ظلّ صارخًا بتعنيف حاد! فَلَمْ أقم، وَلَمْ أتزعزع من جلستي، كي لا أخيفها، أو أفزعها. وابتسمتُ لها باذلة كلّ جهد جهيد بأنْ أتجاهل ذلك الوجه الثاني. فقالت:
أمي!
نعم… يا… قلب أمك.
هناك شخص بعث إليكِ برسالة.
حسنًا. سأنظر من هو؟ وما فحوى الرسالة؟
مع السلامة.
مع السلامة.
واستنهضتُ حركاتي كلها ذاهبة للاستحمام. وأخذتُ معي الهاتف، واستخرجتُ لِبَاسِي الداخلي والخارجي من ضلفة الدولاب، ووضعتُ المرآة مرتاحة على ظهرها بدون النظر إليها. وأمتطى التسجيل الصوتي فرس التشغيل بسبابتي، ليُسْمِعُنِي صهيل الرسالة، واستمعتُ إليها بآذانٍ واعيةٍ. فإذا بها من أحد الموظفين، قائلًا:
هناك مَنْ قدّم نفسه البارحة لوظيفة التحرير الأدبي، ولكنّه شاعر.
شاعر
أبي من نحن؟ لا وطن ولا أهل ولا مال…
إذا نمنا، إذا قمنا زادنا الخزي والعار…
(” كلما نسيت سهيت عن أني سأنسى حتمًا! “) هذه الجملة ألحقتها بالبيتين في دفتر مذكراتي قبل بدء المحاضرة. والشعر دائمًا هو ذلك المُعَزّي الذي يتحرك في أبعادي، ولا أدري أين أعماقه؟ وخديعة كوكب الوطن بالنسبة إليَّ: ميلاد يُهْمل، وحياة تنتظر، وموت يُمْهِل؟! يا للضياع العائش أن أُبْقى حيًّا في مساحتي الفارغة، كأنَّ الحياة تشتهي الموت وَلَمْ تمت، والبلوى أنّها لم تعش بعد! وامتحان الحياة ما هو؟ الدفن قبل الدفن. الفارق أنّي أتنفس في كفن الدنيا كذبابة تدور وتلتف على قَدْر الطيران. وأجنحتها أهم منها، بالرغم من بترها لا شيء ذا بال، وبخاصة تحليق الذبابة المدعوة بــ ( أنا ). إذن. لماذا أحيا بعد البتر؟! وما بعد الحياة تجهيزات رائعة، مثل: ثلاجة الموتى، والغُسْل، والتكفين، وعربة نقل الجثمان، وصلاة الجنازة، والذهاب إلى المقابر، والدفن، ثُمَّ الدعاء لي، والبكاء عليَّ. يا له من تكريم!
أفكر بشكل يستثني الواقع بأنَّ الشيء الوحيد الذي يستحق الحياة هو الموت. وفي كلّ مرّة أحاول أن أبيع نفسي متسائلًا: هل من مشترٍ؟ فكانت نفسي تشتريني دون مرّة قبل العرض الخاص، والخصم أنّني رخيص جدًا!
أنا لا شيء. لا شخص. هُلاميٌّ مهما فعلت. أطمح في تسديد الديون وأنا لا أكمل نصف الشهر بمرتبي الحقير في الوقت الذي كان فيه شباب عائلتي يبنون عضلاتهم، ويخرجون مع الصاحبة والرفيقة للتسامر في مول، أو مقهى، أو مطعم، أو يأجرون ملعب للعب كرة القدم، أو يحجزون غرفة في فندق للتفريغ عن النفس، أو يذهبون لتأدية رياضة الجري، أو السباحة، أو غيرهما في نادي. كنت أنا الفقير قليلة الحيلة الباحث عن حل لسداد ديون خزعبلية وُضِعَتْ فوق حمل طاقة كاهليّ! والعاجز أتم العجز عن تسديدها رغم عملي مدرس برمجة في أكاديمية تعليمية أشبه بجمعية خيرية. (” الطالب لا يفهم ولن يستوعب هذه اللغة البرمجية. “) أُبلّغ المدير بذلك: (” ندخله دورة أخرى. “) يُجيب.
كأنَّ الطالبَ كوبٌ من الترمس نضع عليه الليمون، ليتذوق مرارة كلّ دورة! الأهم ألا يفلت من بين يدينا. ويذهب لأكاديمية أخرى! باختصار. مثال الترمس في مداومة إطعام شهيّة غثيان التعليم، فلا للشهية، ولا للتذوق، ولا للرأي. وبجانب هذا الذل أعمل مدققًا لغويًا في دار نشر تماثل عار النشر! (” أرغب في زيادة. “) قلت. فقال مسؤول الدار (” لماذا؟ هل تطمع. “) فأجيب: (” هذا حقي. “) وإذا به يزودني مثل قطارة العين نصف قطرة بعد كلّ كتاب ملتهب بأخطاء إبتدائية! وحقي بعد الزيادة هو ما يعادل عشر دولارات ونصف، أو أكثر بقليل! وبعد ذلك لجأتُ إليه لأنشر آرائي عن بعض الكُتّاب، فاستأذنته: (” هل يمكنني أن أنشر كتابًا عن بعض آرائي في كُتّاب عصري. “) فأخبرني صاحب الدار على الفور: (” ظروفي صعبة، والدار متواضعة الحال الآن… وعليكَ يا صديقي أن تدخل على صفحة الكُتّاب، وتبدأ بِعَدّ متابعيهم. “) (” من الواضح أنَّ الدار تتاجر في جرائد الذرة المشوي، أو كتب البطاطا الساخنة “) قلتُ ذلك في سري. وما قلته في العلن إليه (” شكرًا “). سأترك المهنتين لو وظفوني في دار ( واو ). لا. عليهم أن يمدوني بمرتب ثابت بالإضافة إلى علاوات وفيرة. ولَوْ لَمْ أُقْبَلْ. ماذا سأفعل؟ هل أشتكي للوزارة، أم للرئيس، أم للحكومة؟ وماذا سيؤول الوضع على الوزارة غير أنَّ الوزير مشغول بالقرارات الوزارية؟ حسنًا. لنذهب للرئيس. ما هذا الغباء الذي يستحوذ عليَّ؟! طبعًا. الرئيس منشغل بالبلد وحالها وعلاقاتها. لأسأل الحكومة ما أريد. وقد بدا لي أنَّ الإنجاز الفريد للحكومة في دولتي هو المشاهدة الصامتة بالنيابة عن كلّ المعضلات التي تحدث مع المواطن الرخيص. حقًا! أنا لست رخيصًا، ولست منخفض الثمن. أنا مجاني تمامًا بلا رسوم، ومن غير دفع مصاريف شحن، وبدون تكاليف مُعينة. من كثرة ما تَحمّلت تمنيتُ أن أكتب عن نفسي إعلانًا في صحيفة شهيرة بادئًا: (” كلب بلدي وفيّ للتبني فقط. لا للتبرعات من الأسر الثريّة! “) لَكَمْ أنا أحمق. الأسر الثرية تشتري الكلاب المستوردة، لا تعطف على كلاب الشوارع، ولا تتبنى اللطف عليهم!
شاعر الدفعة هل ستحضر المحاضرة؟
سألني أحد الزملاء في الجامعة مُقاطعًا لحديثي السِرّي مع كامني. (” الآن هل وجبت الإجابة؟ “) تساءلت في قاع نفسي أثناء لمح بصر البُرهة، وأجبته:
ربّما يا صديقي.
نزلت للمكتبة وأنا أشحذ التفكير متسولًا: (” عندما مات الأب تخلى عنا الرّب “)، ولوهلة قررت الحضور قبل أن أقرع باب المكتبة بدقتين، أو ثلاث دقات بقبضة يدي اليمنى. تذكرت أنَّ أبي كان مُوجهًا لمادة الرياضيات خارج البلاد، ولا يصح لي أن أفوت هذه المحاضرة. صعدت من جديد قاصدًا قاعة المدرجات. دخلت بعد الدكتور مباشرة. واعتصرتُ عقلي مُفكرًا: (” ما اللذة أن يميتني الله كلّ يوم وأنا رُبع حيّ؟ بصدق. اللذة أنّه إله وأنا عبد! “)
وعلى توازٍ آخر ظلّت ترافقني في حقيبتي مجموعة قصصية لمديرة التحرير في دار ( واو ). لحظة دخولي للمحاضرة، سأقرأ لها قبل الذهاب لمقابلة العمل، وأبدي رأيي في مجموعتها لتُعجب به وبي سواء بسواء، وتوظفني عندها، أو تحت إشرافها. مَرّت خمس دقائق، وَزَعَقَ الدكتور في آن فاجئني صائحًا:
من يريد النوم؛ فليذهب لآخر مدرج. لا خروج اليوم.
طرت صوب آخر مدرج، وفتحت المجوعة القصصية الأولى لتلك الأديبة، القصة الأولى مملة أصيبت بداء الحشو وسعال الإطالة. القصة الثانية جيدة جدًا حَوَتْ التكثيف المُرَكّز في شارع مليء بأثرياء الضغينة. وغفوت قليلًا بعد قراءة قصتين من عشر قصص.
وبعد ثوانٍ معدودات قمت من غفوتي أفتش بنظري المتحري عن القصة الثالثة. أظنّ أنّها كانت تحمل عنوانًا مثيرًا (” ما بعد العمى. “) هنا وهناك وهنالك ورطة استوضحها بجلاء. متلفتٌ أبحث عن أي حل من الحلول. هل تذكرت اسم القصة، أم أصابني العمى؟! وقد لمعت عيناي بافتتاح مسرح البصر. الكتاب فارغ عن بكرة أبجديته، وأنا أقلّبه ذات اليمين، وذات الشمال، وينحني هو مع حركة يديّ طولًا وعرضًا. أغلقته من شدة القلق. أغمضت أدوات إبصاري. تنفست بلين، وفتحت مشهد التبصر من اللا قديم. ما هذا يارب الكلمة والحرف؟! الغلاف ممسوح العناوين، وعلامة الدار لم يتبق منها سوى اللون. كذلك بعدما عدّلته بواسطة كَفّيّ على قفاه. بات المكتوب محذوفًا في غلافه الخلفي عدا صورة الكاتبة. لم أحدق بإثلاج عينيّ في صورتها، ونظرت بجانبي لذاك الرفيق الذي كان يسألني في بداية اليوم عن حضوري للمحاضرة. لا… لا… لا… يا للخرافات! لعلني لا أزال ذائبًا في غفوة تُسَيّح جليد النوم! فصفعتُ وجنتيّ صفعتين قويتين؛ لأستفيق. نظر الجميع للخلف بغضب فائر، وحدق صاحبي لي متغاضبًا أيضًا، يلوك همهمة غير محسنة، وتمتم الدكتور بابتلاع الرفض، ليسترسل في محاضرته العلميّة. وجميع الوجوه التي رأيتها آنذاك قد اختفت وأجسادها مرئيّة!
فيلسوفة
اللا ابتداء واللا استهلال يبدآن بنهاية قديمة! فكيف بي لَوْ لَمْ أَمُتْ في الختام! والحكاية وما فيها أنَّ السردَ أهم من هامش الحكاية. لماذا أكتب كفيلسوفة بعض ممّا يحذف صديقي؟ ولماذا بَدَأَ ما كُتِبَ إلى إعادة تدوير من قمامة النسيان؟ آه. معذرة يا روحي. نسيت أن أُعرّفكِ على ذلك الصديق الذي تذكرته للتوّ. مهندس من طراز محلي يعيش في دولة من العالم الثالث مكرر، يخطط لمشروع كبير يضم لغات البرمجة في نظام واحد، وقد سطر بعض القصائد والمقالات منذ ست سنوات، ولكنّه هجر الأدب كلّيًّا. ديوانه القصير الذي كتبه أحرقه سبع مرّات على التوالي، وفي المرّة السابعة قرر أن يغادر عرش القلم إلى غير رجعة! والشيء الغريب أنّه من أسرة كانت مُرفّهة جدًا جدًا، بالإضافة إلى حياته الغنية بالترويح عن النفس. أمّا هي فأنا أعلم عنها أكثر ممّا تظن، وأعمق ممّا تتخيل إبان تصوراتها. وسأحكي لكَ يا زوجي الفيلسوف عنها أولًا، وبعد ذلك سأروي عن صديقي ما سيحدث معه الآن.
ذَرَعَتْ الأديبة باب مكتبها مرتدية فستانًا أسودَ بأناقة صاخبة من أول شعرها حتى قدميها، ولا غرو أنَّ الفستان يطبع الجلال المعطاء على طلّة جمالها. وأخذت تعنف موظفيّ الدار:
اقترب المعرض. نحتاج لشغل من نار.
لا تتوقفوا عن العمل. واذهبوا إلى المطبعة لإخراج أحدث الإصدارات.
من أراد الاستراحة فالعمل هو الراحة.
لا يوجد ماذا سنفعل بعد؟ بل يوجد ماذا فعلنا الآن؟
الكتاب هو الحريّة. على الأقل عندما نغلقه لا يجبرنا على فتحه مرّة أخرى إلا إذا أرادنا ذلك.
عَرِفَتْ تلك الأديبة الملل في علاقاتها مع الناس، والكلل من الأخلاق المطبوعة على صفحات أنثاها الداخلية، وتحيرت في كتب أحرفها لا تصفو لصديق، ولا تدرك الإخاء، ولا ترتكز على الزواج، فلا تثبت على وعد، ولا تصبر على الألفة، ولا تحتمل نصفها الآخر المتمرد، بل وفي أغلب الأحايين تنقلب على تمرده بتنمر محفوف باللوم والتأنيب.
وها هي لن تنتظر أي قرب من أيّ شخص، حتّى لا يُنْتَظر منها وُدّ، ولا كُره. فتلكَ أنثاها، أمّا هي كمديرة فتتمتع بالرزانة والصرامة معًا في شغل الدار، وبعد لحيظات دخل مساعدها الأدبي في تحرير كُتَبها. رجل خمسيني أعرج، مُمْسكًا بعصا يخيل للناظر أنّها تحمله لا تسنده، ولا تسانده. وببسمة صفراء أفصح:
كيف حالك أستاذتي؟
الحمد لله على كل حال.
هناك رسالة على مكتبك.
من نبرة صوته دبلجت الحدث مُبْدِية التساؤل:
هل هي من زوجي؟
نعم.
هل قرأتها؟
أجل.
لمست بكفها خدها الأيمن، وكأنّها تحاول فَرْكه، والدموع تغزو عينيها في حشد مكظوم.
ورقة…. طلاقي… إذن.
كما طلبتِ منه.
ازدردت ريقها في صدمة مخدوشة من التصادم إثر طلاقها الثاني. تهيؤات، ورواسب، وعواطف. لا تتذكر أي شيء من جميعهم، ولا تزعم أنّها نستهم. فلا يُمكن لأيّ من بنات حواء أنْ تنسى الخيرَ؛ فهوَ يتناساها دومًا، ولا يُمكن أنْ تتناسى الشّر؛ فهوَ لنْ يُمْحَى أبدًا! كمْ هيَ خبيثةٌ تِلك الذاكرة!
نظرت للرجل الخمسيني، فوجدت وجهه مترنحًا في الإضحاك. لا. لم يكُ وجهه، بل كان ذاك الوجه الثاني. تقدم الرجل وتجرأ في عَرْضِهِ، والوجه الثاني مكهرب الضحكات:
من العسير بغباء أن تكوني على طبيعتك مع شخص يتربص لكَ الأخطاء.
…………………..
لم يعد هناك إحساس بالراحة في الإجتماعية، أو الإنطوائية. أصحيح ذلك يا أديبة؟
وكأنّني أسألُ: أين الخروج إلى المفر بلا عودة الذهاب الهارب؟!
نفخت ما يمنع صدرها من الراحة، فاكتئبت أكثر قافزة إلى موضوع آخر بتعجيل ظاهر:
دعك من كل هذا، واتصل بالشاعر يا مسؤول التوظيف.
حسنًا، ولكن هناك سؤال.
لو عن حياتي الشخصية لا تسأل.
ما الإنسان؟
هل هو جماد لتقول ( ما ).
ربّما ما في نفسه أسوأ من جماد لئلا أقول ( من ).
ما هو من وجهة نظركَ؟
المخطئ والمصيب معًا.
الإنسان دائمًا عليه أن يقتنع بكونه مصيبًا، أو مخطئًا، ولكنه للأسف انشغل بتفكير حاد في كونه ناقصًا، أو مريضًا، أو منفعلًا تحت عبودية التطوير من أجل حريّة فانية؟!
نعم. نعم. إجابتك متقنة عني.
شكرًا.
وتم تذكيره مع نفسها على الفور بصوت ناعم:
لا تَنْسَ أنْ تتصل بالشاعر يا مسؤول التوظيف.
أجابها وهو يغادر المكتب:
سأفعل ذلك الآن.
انتفض هاتف الشاعر راقصًا مثل هرمون متنقل عبر إشعال فتيلة الأحاسيس، والشاعر يجري مُنْطلقًا خلف حافلة لا تتوقف، لتقله إلى شارع بيته. بعدما كان يصيح بكلمات متعالية الرجاء: (” توقف. “) (” انتظر لو سمحت. “) انتهى به القول بدمدمة: (” اللعنة عليك يا سائق النجاسة. “) (” فلتذهب إلى قبر الكبريت محترقًا. “) وتوقف لاهثًا بحرارة اليأس، واضعًا يده في جيبه متشائمًا، لينقر على زر الرد للمكالمة الآتية. رقم مجهول من نفس البلد، ولكنْ، برنامج المتصل الحقيقي أظهر اسم المتصل دار ( واو ). وسارع شبح التوتر أن يمسك بذيل التردد. (” ماذا بعد يا شاعر؟ “) قالها في نفسه. خاف أن يغلق أجراس رقم الوظيفة حتى أفضت الأجراس بروحها على إزالة التنغم المُتَصِل. كاد البكاء أن يلتقط عينيه ويعصرهما. وفورًا، تذكر أمه بعد وفاة والده بشهر وهو يخبرها على نحو شاكٍ بأنّه يرغب في البكاء. سألها ذات مرّة: (” كيف تبكي يا أمي؟ “) فبكت هي ولم يَبْكِ معها! أخذ من الرصيف رفيقًا يربت على حَجَرِه. وبدا له أنَّ الحَجَرَ يستمع أكثر من البشر. على الأقل هو لن ينهره إذا فعل أي شيء خاطئ.
وظلّ يلعب الغميضة مع عينيه في حين انتظاره للحافلة التي تلي أختها المهاجرة. يستطلع العد حتى عشرة، ومِنْ ثَمَّ ينظر بإمعان يضغط على رؤيته المحدقة تجاه أهل العربات والسيارات والدراجات. خصيصًا وجوههم الشفافة. أخرج مذكرته سريعًا، وكتب فيها ملاحظاته معنونة بـــ:
بعد ثلاث ساعات من ظهور الظاهرة
أغلب البشر بوجهين!
الوجهان شفافان!
الملامح ظاهرة، ولكنّها شفافة أيضًا!
اختفاء ظلال الناس!
أجساد البشر مرئية!
جميع الجمادات مرئية!
توقف فجأة عن ترسيم الملاحظات، وتسطير علامات التعجب في نهاية كلّ جملة، وقام وكله نفاد الملتاع من الطمأنة، رمى مذكرته على الرصيف بضجر، وتمشى بخطوات خائفة ممّا مرّ بخاطره للاستكشاف. تصنم جسمه تحت شجرة. أخرج الهاتف بتمهلٍ مفزوع. صنع من يده مظلة؛ لِتَحْمِي انعكاس مرآة الهاتف من أضواء الشمس، التي تخترق وريقات الشجرة بالنفاذ على شاشة الهاتف. وسرعان ما نظر لوجهه خلال انعكاس صورته على زجاج الهاتف بعد نَفَسٍ متعمقٍ فيما رأى. يتبع
