« صندوق الدنيا » قصة قصيرة
دَاخِلُ الصُّندُوقِ يَقبَعُ الجَمعُ ، لَا أثَرَ لِلحَيَاةِ فِيهمْ سِوَى شِفَاهٍ تُتَمتِمُ ولِسَانٍ يَلغُو؛ تَتَدَاخَلُ الأصوَاتُ ، لَا أُذُنًا تَسمَعُ ، ولَا عَقلاً يَعِي ، العُيُونُ لَا تَرقَى خَارِجَ الصُّندُوقِ ، بَينَمَا هُوَ يَتنَقَلُ بَينَ ظِلَالِ أفكَارِه ، كُلَّمَا استَظَلَّ بإحدَاهُنْ لبَعضِ الوَقتِ يَنتَفِضُ مُسرِعًا ليَستَظِلَّ بِالأُخرَىَ ؛ فكُلُ ثَابِتٍ لَدَيه لَا يَستَحِقُ المُكُوثَ فِيه طَوِيلاً ، يَرفُضُ الأنمَاطَ المُتَحَجِرَةَ والآليَاتِ الآسِنةِ والأفكَارَ الراكِدَةَ ؛ يَنفُرُ مِنهَا ، تُحَلِقُ عَينَاه خَارِجَ الصُّندُوقِ ، يَرقَى عَقلُه عَالِياً يُحَلِقُ بَحثًا عَنْ ظِلٍ مُغَايرٍ خَارِجَ الصُّندُوقِ يَستَظِلُ بِظِلِه ، كُلُ ذَلِكَ جَعَلَه يَبتَعِدُ عَمَّنْ يُجَاورُونَه فِي الصُّندُوقِ مَهمَا تَحَلُّوا بِجَمَالِ الصُّورَةِ وحُسنِ الهِندَامِ وبَيَانِ الِلّسَانِ ، فمَا عَادَ يُثِيرُ دَهشَتَه سِوَىَ مَا يَدفَعُه أنْ يَستَظِلَّ بِظِلِه مَهمَا كَانَ مُغًايرًا لطَبَائِعِ مَنْ فِي الصُّندُوقِ ؛ فَكَانَ يَنفُرُ مِنْ كُلِ آلِياتِ الصُّندُوقِ المَحفُوظَةِ عَنْ ظَهرِ قَلبٍ ؛ مِمَّا يُزِيدُ البَونَ اتسَاعًا بَينَه وبَينَ مُحِيطِه التَّقلِيدِي ، والمَعِيشَةِ الرَّتِيبَةِ التِي تَتَكَرَرُ مَشَاهِدُهَا فِي الصُّندُوقِ ، يُحَاوِلُون مَعَه بِشَتَّى السُّبُلِ أنْ يَتَّبِعَ مَنهَجِيَتَهمْ فِي التَّعَايشِ مَعَ قَوَانينِ الصُّندُوقِ ، ولَكِنَّه يَجِدُ فِي عَقلِه وظِلَالِ أفكَارِه المِسَاحَةَ الكَافِيَةَ لاستِنشَاقِ نَسَائِمِ الحُرِيَةِ :
- لَابُدَّ أنْ تَحفَظَ دَورَك المَرسُومَ لك ، وتُؤدِيه وَفْقَ قَوَانينِ الصُّندُوقِ
- إنَّ فِي مَنهَجِيَتِكمْ زَوَالاً لِظِلَالِ أفْكَارِي
- لَا تُغَرِدُ مُنفَرِدًا ، عَليك أنْ تَرضَخَ لمَعِيشَتِنَا وقَوَانِينِ الصُّندُوقِ
- فِي تَفرُدِي حَيَاةٌ لِرَوحِي
- مَاذَا تَقصِدُ بِحَيَاةٍ ؟
- سَأُحَلِقُ خَارِجَ الصُّندُوقِ ، وأستَظِلُّ بِأفكَارِي ، وأحيَا كَمَا أُرِيدُ أنَا ولَيسَ كَمَا تُرِيدُون أنتُمْ لِي
فِي رُكْنِ الصُّندُوقِ وَحِيدًا يُغرِدُ مُنفَرِدًا ؛ تَحجُبُ أصوَاتُهمْ المُتلَاطِمَةُ ألحَانَه ، يُحَاوِلُ ويُحَاوِلُ رُبَّمَا كَانَت لِألحَانِه صَدَى ؛ فتُغيرُ سُوءَ مَا يَعِيشُوه ..
وذَاتَ صَبَاحٍ فِي رُكْنِه وَحِيدًا ؛ تَتَعَالَىَ الهَمهَمَاتُ ، تَتَدَاخَلُ الأصوَاتُ ، تَعلُو الصَّيحَاتُ : - ألقُوا بِجُثمَانِه خَارِجَ الصُّندُوقِ
صَوتُ الرَّاوِي : - دُنيَا وفِيهَا كُل اشِي .. وكُل مِن جَاهَا مِشِي
وتُوتَة تُوتَة وفِرغِت الحَدُوتَة
بقلم #سمير_لوبه