مؤمن عفيفي يكتب الوجه المائل جزء٢


فيلسوف


هل حكاياتكِ هذه تحدث الآن؟
هما حكايتان لا حكايات، ولن أخبرك بأي آنٍ.
وَقَرَعَتْ الفيلسوفة ضحكة. أمّا أنا فاستنشقتُ أملًا، وزفرتُ صبرًا داعيًا:
يا ربي أين الفرج؟
هل مات في طريق العودة يا زوجي؟
ربّما مات قبل العودة يا زوجتي.
سكنت زوجتي الفيلسوفة لثوانٍ:
هل قلتَ سكنت زوجتي الفيلسوفة لثوانٍ؟
لماذا تحشرين أنفك فيما أروي؟
أممممممممممم. ولماذا تحذف كفيلسوف بعض ممّا تكتب صديقتكَ؟ ولماذا ينتهي ما يُكْتب إلى الزج في قمامة التذكار؟
لأنني أتذكر.
كيف تتذكر؟
بالذاكرة.
وما الذاكرة؟
أمور وحوداث وشخصيات؟
ما الأمور؟
بعض من الملهاة.
وما الحوادث؟
الكثير من المعاناة.
وما الشخصيات؟
بقايا المأساة.
لم أفهم أي شيء.
ولا أنا.
وبعد ثوانٍ أخرى من حوارنا كنت اَبْتَغِي الإفصاح عن…. فقاطعتني زوجتي:
لماذا أكتب كفيلسوفة بعض ممّا يحذف صديقي؟ ولماذا بَدَأَ ما كُتِبَ إلى إعادة تدوير من قمامة النسيان؟
هذا ما نويت سؤالك عنه!
وبعد وهلة من التفكير المُتَبَحّر في العُمق أجبتها:
لأنّنا ملتحمان بهما.
أتقصد أنّهما منا، ونحن منهما.
شيء من هذا القبيل.
كيف يكون هذا القبيل؟
قمامتان: الأولى غيب التذكار، والثانية ما وراء الغيب للنسيان.
سألتني في تلهفٍ مغمور بالابتهاج:
اشرح لي أكثر.
الأولى تتناسى، والثانية تتذكر النسيان.
وأين التذكار؟
لم ينس سوى نفسه، وأعاد تدويره بنفسه أيضًا.
لماذا الاستهزاء نابعًا من نبرتك؟
وفجأة صحتُ في انفعالٍ وغيظٍ:
اخرسي يا حمقاء.
مَنْ الحمقاء؟
أنتِ.
لماذا أنتَ منفعل؟
هناك استدعاء.
مِمّنْ؟
من الروح.
أليس أنا وأنتَ نفسان تائهان؟
أنا وأنتِ انشطار من روحيهما.
نَفَخَتْ الفيلسوفة في استهزاء متطاول:
مِنْ روحــيــهــمــا؟!!!!!
أجل.
مَنْ هما؟
صديقكِ الشاعر، وصديقتي الأديبة. أنسيت يا زوجتي؟
عملية إعادة التدوير مُرْهِقَة. فلا أتذكر… آه… نسيت ما ينبغي عليَّ قوله.
هل تتذكرين من أنا؟
لم أذكر إلا سواكَ حتى الآن.
تَمْتَمَتْ في نفسها، فَأَوْجَسَتْ في خيفةٍ:
هل… النفس… والروح… توأمان؟
إلى حد ما.
مثل مَنْ؟
مثل الشاعر والأديبة.
كيف النفس تكون جزءً من الروح؟
النفس المطمئنة تعود إلى الروح.
ما النفس؟
انشطار جزئي يتجزأ من الروح.
وما الاطمئنان؟
الاستغناء.
ما العودة؟
الرحيل.
وما الروح؟
اللا حدود في زمكان ما.
هذه المفردات أشعر باستيعابها، ولكني لا أفهم منها شيئًا. يا تُرى من الذي اخترعها؟
الإله الأعلى.
ومن الإله الأعلى؟
تموجتُ في شكل لا نهائي؛ لكي أطوف حولها، وأنا مندمج في كينونتها:
الأمر معقد لو شرحت يا زوجتي!
لِمَ؟
لأنَّني آمرٌ لنفسي بأسوأ ممّا يسوء.
ما السوء؟
عدم الاعتراف بالإله.
ما عدم الاعتراف؟
الإنكار.
وما الإنكار؟
لا أستطيع أن أقول لكِ. كوني أفضل مني مع الله.
مَنْ الله؟
الله الأعلى.
هل يوجد أكثر من إله؟
الآلهة كلّها تموت من يوم إلى آخر. أمّا الرّب فهو الذي يقتلهم، كأنّما تُفْنَى الآلهة حتى يتضاحكون صراخا فانيًا إلى الفناء.
ما الفناء؟
البقاء.
وللحظة غير مُحَدّدة استهلت زوجتي بقولها:
انتظر.. انتظر يا زوجي………. وجدتها. وجدتها.
ماذا حدث لكِ؟ وماذا وجدت؟
لقد عادت ذاكرتي، وتخيل أول شخصًا وجدته.
فاستنتجتُ في انشراح متممًا لشعور الفرح:
مَنْ؟ مَنْ؟ صديقك، أم صديقتي.. قولي لي.. هيّا..
أمممممممممم. لا أريد أنْ أقول أممممممممممم. بصراحة يا زوجي لقد تذكرت الله؟
مَنْ الله؟
لا تقل أنّك نسيت.
ما الـــ(نسيت)؟
أتت من النسيان. انتظر هل تتذكر من أنا؟
لا أَعْرِفُكِ، ولكنْ، أظن أنّني أحبّكِ.
تحبني؟!
لقد تذكرت يا زوجتي.
مَنْ؟
الله وعلاقة الإنسان به.
مالها؟
علاقة من طرف واحد ما دام حبنا لله هو نفسه صورة من صور حب الله لنفسه. هو لا يأخذ، بل يهب دومًا؛ لذاك هو الوهاب. وما ليس لنا لا يأتي حتى لو تحايلنا على القدر بالحظ.
وَأَوْشَكَتْ أن تتغاضى عمّا تفوهتُ بهِ، بَاسمةً:
لا تنكر فضله عمّا قريب سنهبط في جنينين. استعد.
انتظري قبل الاستعداد.
ماذا هناك؟
هل سنودع بعضنا الآن؟
أنتَ ستنزل في جسد. وأنا سأهبط في جسد آخر.
هل ستعرفينني عندما أكون إنسيًا؟
ربّما.
كيف؟
سأرى في إنسكَ الخفيّ إنسانًا.
سأحبّكِ إلى الأبد.
الأبد زمن!
إلى الأزل.
وللأزل أحايين وعصور!
سألتني في شعور ثقيل على صدري:
هل مادُمتَ تحبني حتى اللا لحظة هذه؟
نعم. أحبّكِ منذ الأبد الذي فتش عن أزله، ولم يجده!
أديبة


(” صرتُ الأقوى يا زوجي الأخير. لم تعُد مشاعري ضعيفة مثل السابق. وشكرًا لأنّك حررتني منك. أعرف أنَّ الأمر مؤلمٌ على نحو أشد فتكًا من الفقد، وبخاصة بأني زوجتك الأولى. لا تحزن. عليك فقط أن تخرجني من قلبك بعد بضع سنين، وأعلم أني انخرطت في العمل، ونسيتك بعد بضع ثوانٍ من قراءة خطاب الانفصال. وبعد سنوات سنرى بعضنا من جديد. سأكون لكَ مجرد صديقة عادية مثل جميع النساء، ولا أتميز عنهن بشيء.
وفي النهاية. الآلام تستغرق أعوامًا لإزالتها، وهناك آلام لم نُشْفَى منها بعد، وربّما لن يسعفنا الشفاء. سيأخذ دور المشاهد اللا مبالٍ بأي جرح، أو داء. وأخبرك وبصدق أنَّ بعض الآلام إذا حاولت إسعافها جرحتك أكثر. كعلامة لجراح في داخلك لا تؤلمك إلا إذا دهستها بإصبع مداواة التذكر، وحقنتها باللا سهو، وابتلعت كبسولة الغفلة في نسيانها.
لا تيأس. ستكتشف قدرتك على الاستغناء، والتخلي، والاكتفاء بالذات، ولا تصدق عواطفك. أنت رجل؛ فَزِنْ فكرك، وعقلك، وتناسى ميزان القلب.
الاستفاقة ستجيء في وقتها تمامًا، والإحساس بالاستفاقة لذيذ وسَارٍ، ومفعم بضياء الحُبّ. “)
أبعثتُ إليه المرسول على الماسنجر بعدما راجعته ست مرّات. كان حسابه نَشِطًا. طالع الرسالة مباشرة. أظنُّ أنّه سيرتلها الآن أوفر من مرّة. وبعد ست دقائق أخذ يكتب جملة ما. وفجأة توقف عن الكتابة، وأزال ما كتبه قبل إرساله. وأغلق نشاطه بالانغلاق، أنا أعرفه وأحفظ تحركاته على نحو ممتاز، فهو يفكر بغزارة قبل أي شيء؛ لعله لا يريد أن يتسرع ويندم على العجلة في اتخاذ الكلمات. لن أقلق حياله أبدًا. عندما يعود إلى وعيه سيتفهم وبشكل طاغٍ أنَّ العودةَ رحلةٌ طويلة من الرحيل! والمعافرة مع الحياة كرقم مغلق يسمع تسجيله الصوتي يردد في كلّ مرّة: يُرْجَى المحاولة مرّة أخرى!
قاطع مساعدي الخاصّ حواري وتخاطبي مع نقاش العودة والمعافرة قارعًا الباب بدقتين، ثُمَّ ثلاث، ثُمَّ دقة واحدة، ثُمَّ سألني:
مديرتنا هل أنتِ……. بخير؟
التفتُ إليه بوجهي فقط، وأنا ساهمة في جدار شاشة هاتفي بدون إلقاء نظرة على شخصه. أُودّ ألا أكتشف الوجه الثاني من كلّ فرد أراه. وبعد تفوهه بكلمة (بخير) رنوت إليه في استحسان يتقبل ما سيطلبه، فاستهل طالبًا:
الشاعر في الخارج. يقول أنّه كتب رأيّه في قصتين من مجموعتك الـــــ…………
يدخل بعدما انتهي من كتابة مسرحيتي الجديدة.
حسنًا.
خرج مساعدي، ففتحتُ عيني اليسرى التي أغمضت جفنيها؛ لاختبر عملية الظهور لأي وجه ثانٍ. والحمد لله لم يظهر ذلك الوجه الإضافي. تذكرت ما طالعت في كتاب ما عن العمى السيكولوجي وهو أن يرى الشخص ولا يفهم ما يراه. فكيف لو رأى وهو يتفهم ما يراه ولا يفهمه؟! وانكببتُ بجسدي على الدُرْج السادس، وأخرجت بعض الأوراق البيضاء؛ لأكتب عملي الأدبي.


صراع الفنون
مسرحية ذات فصل واحد
قالت الخشبة للحياة والمسرح معًا:
الحياة مسرح واسع، يتقبل جميع الأدوار بشكل عشوائي، وبصفة لا تستثني الواقع، ليست الحياة مسرحًا كبيرًا، لأنَّ الكبير يَصْغُر، أو يَضْعُف، أو يموت. أمّا الواسع فهو لا يضيق أبدًا.
وانفصلت الحياة عن المسرح، فقال المسرح لحياته:
أنتِ أيُّتها الحياة تحتاجين إلى قلبٍ من حديد، يتحمّل الأزمات بثبات لا يتزعزع، وأنا قلبي من بلور، مهدد دائمًا بالتحطيم. Top of Form
ردت الحياة في تأثر بالمسرح:
تقول أشياء يا مسرحي تدعو للتعجب والدهشة معًا. بالرغم من كلّ ما فات تُوصم نبرة التحطيم في ضعفك! وأنت مازلت صامدًا على أساس قدميك!
أهمل المسرح ما تقوله الحياة، قائلًا في همهمة مسموعة:
إنّي لا أجيد السباحة، وأعرف أنني غارق لا محالة.
همت الحياة أنْ تفصح بشيء لمسرحها، ولكنَّ القصة تدخلت بلهفة:
إذا كانت الحياة سمكة، فلا تطمع أيُّها المسرح إلا أن تكون طيرًا؟! فأنتَ لَمْ تُخْلق من أجل السباحة، بل خُلِقَت من أجل التحليق.Bottom of Form
جرى الشعر على الخشبة صائحًا للقصة:
تتفوهين بكل ذلك يا قصة قبيحة…
من وراء ظهري..
ومن خلف وجهي…
و أنا احترقُ…
كل شيء يتصاعد كدخان داخلي…
لا تُطفئين مشاعلي…
كي لا تتعطل عواطفي، وتفترقُ…


تراجعت القصة منسحبة إلى المسرح، ومالت الحياة إلى الشعر، ثُمَّ باح المسرح بسرّه:
الحوار هو الوصول لكلّ شيء.
غضبت الحياة، وزعقت في حنقٍ:
لولا الأحداث في دُنياي ما عرفتَ الحوار يا مسرح الهوى الحزين.
جنحت القصة تدافع عن المسرح في ثقة غير مضطربة:
النفور، والقبول، كلاهما إهتمام زائد بأحدهم. وهما الأساس لحوار يُناقش ويتناقش. أليس كذلك؟
بعد لحظة صمت اعترض السيناريو السينمائي بجماهيره المتابعة للتحاور:
المسرح لا يَصْلُح حوارًا لقصة الحياة. الصورة هي الأساس لإتمام عملية المناقشة.
تغاضب الشعر في تعنيف جاد أمام السيناريو السينمائي:
ثمة ذكريات تستدرجهم إلى الماضي وهم لا يعلمون.
فرد السيناريو متصارحًا:
أأتركهم عاشقين بين الصورة، والصوت، ولا أرحل! إنَّ كيدي متين!
ضحكت الحياة في سخرية حادة:
المشكل أنّنا سنرحل عمّا قريب، حتى تصرخ ذاكرتنا بالعودة لحضور مؤتمر الماضي في حاضر انقرض.
ثُمّ قالت في إصرارٍ وعزيمةٍ:
الانقراض الفنيّ ألا نفرح وألا نحزن، ألا نحب وألا نكره، ألا نبقى وألا نتلاشى، إذا حدث ذلك فأعلموا أنّنا انقرضنا، وقد مُتنا ونحن أموات!
السيناريو السينمائي في هتاف متصاعد من أحشاء المقاعد الجماهيرية:
نحن أحياء أيّتها الحياة الميتة، أنت تدافعين عن فنونك فقط.
أقدمت ( راء ) في شك مرهون، كمحقق يتقصّى عن الحقيقة الضائعة:
الحياة تدافع عن أولادها يا جاهلين على الحياة ودعوتها.
عج السيناريو السينمائي بلا جمهوره:
ومن حضرتكِ لتدافعي عن الحياة المستحيلة؟!
أنا الرواية، حوار شخصياتي مسرحًا، متتاليات حكايتي قصصًا، نغم جُمَلِي أشعارًا، بنات أفكاري لغة، وأحفادي هُم رُواة.


واتصلتُ بهاتف مساعدي على الفور حالما أنهيت حوار المسرحية، وأبلغته:
ليتفضل الشاعر.
وسهيتُ عن وضع كلمة (ستار الختام)! وتساءلتُ قبل تسطيرها في أسفل الورقة: هل هذه المسرحية مسرحية، أم مجرد دفقات حواريّة؟


شاعر


تفضل أيُّها الشاعر.
قالها مساعد الأديبة، وترك الباب مفتوحًا، واستدار ليُكمل شغله. تقدمتُ نحو الكرسي الذي يجلس أمام وجه الأديبة بعدما ألقيتُ عليها السلام. وردته قائلة: (” وعليكَ. “) ثُمَّ باحت بقرارٍ: (” انتظر دقائق قبل أن نتكلم. “) وتصفحتْ برأسها التي أَعْمَى عن رؤياها بعض الوريقات المقصوصة. ما هذا الهُراء؟ أو كأنّها تخشى الكلام. هي امرأة مثقفة جدًا. استظهر ذلك من رحلتي قبل المجيء إليها على صفحتها الفيسبوكيّة، ترشيحات الكتب التي تنشر عنهم فيديوهات تحليليّة على صفحتها الشخصية. طريقة زوايا تصوير الكتب. وأيضًا مراجعاتها الغزيرة عن كتب تقرأهم بلغاتهم الأمومية: كالإسبانية، والإنجليزية، والفرنسية، واليابانية. ومقالات مجمعة عنها في أكثر من كتاب نقدي. ولا سيما حصولها على جائزة غربية كبيرة في الكتابة. وجوائز يابانية في القراءة كلّ عام. لقد أنجزتْ الكثير والكثير من الأعمال. بالتأكيد السبب واضح جدًا ألا وهو الثراء. والدها ثريًّا، وكذلك زوجها الثاني، وهي تفعل ما تشاء.
وقد تصفحتُ منشورات أصحابها وصُويحباتها أيضًا. أغلبهم من متخرجيّ جامعات أجنبية، والكثير منهم مثلها في الثراء، وفي الكتابة. هم يتحدثون على العموم عن: السمو، والأفكار، والإيجابية. بالطبع، المال يصنع الفراغ للحديث عن هذه الأشياء الغير مفهومة بالنسبة للطبقات: المتوسطة، والبسيطة، والفقيرة، والمعدمة الذين هم عامة الشعب! الفقير فقيرٌ، والثري ثريٌّ. ما أعدل هذه الجملة في ظلم أقدار البشر، فالثري تذكرته السماء. أمّا الفقير سقط منها ساهيًا للسهو!
الآن تخاطبت مع نفسي بنفسي، وهي لا تزال تنظر ما بين الوريقات المقصوصة، والأوراق المكتوبة، وهاتف الأديبة، ثُمَّ تحيد الأديبة عن وجهي إلى ما تحت رقبتي، فأفقد التخاطر معي من غير نفسي حيثما رَفَعَتْ الأديبة رأسها شفافة الوجه. وفاهت بــ:
لنبدأ.
انتظري دقائق.
لِمَ؟
فقط دقائق لو سمحتِ.
أجتبها، وردت ببطء عليَّ كأنّما تتهجى الحروف بأجدية كلّ حرف على حدّة:
كـــ.ــما… تـــ.شــــ.ـــا.ءُ.
أنا أعرف تلك المرأة. قابلتها في تخيلاتي الوهمية من قبل. نبرة صوتها، وهيكل جسمها، ورقبتها الطويلة حتى أداء رفع رأسها أتعرف عليه بهوس المعرفة. كذلك ملابسها، واعتادها بأناقتها، ونمط البريق لمساحيق التجميل التي لم أَرَ إلا سواها. وللأسف أنا خائب الاقتدار على رؤية وجهها بشكل كُلّي.
وبُعَيْد لحظات ستقاطعني حسمًا. هناك الملاحظة الأخيرة على ظاهرة الوجوه الممسوحة من جلودها:
مساحيق التجميل تظهر على الوجه الشفاف بلونها الطبيعي مهما كان شفافًا.
عفوًا. ماذا قلت؟
(” أخٌ لقد سمعتني. “) قلتها في داخلي. وأفصحتُ لها:
لا شيء.
هل تغازلني؟
لا.
ولِمَ لا؟ اِحْكِ لي عن عملكَ. وسأحكي لكَ عني.
أنا الشاعر……………….
ولاحت رنة موسيقة من أصناف الجرس الماسنجريّ مثل قافية في قصيدة رائية مع قولي أنا الشاعر. تلبّكت الأديبة، وهامت ممسكة بالهاتف وهو يتساقط منها وهي تجرجره على المكتب مثل حلزونة تتمسك بِحَمْلِ قوقعتها. وبعد ست دقائق وأنا أحدق ما بين العقرب الطويل الذي يهرول بالفيمتو ثوانٍ إلى ثوانٍ إلى دقائق في رسغي الأيسر. رتلت الأديبة الرسالة ثلاث مرّات على منوال من نبرات الإلقاء اللين الذي لا يأسن:
(” بي شيء إنطوائي يا أديبة. شيء يتغلغل في عمق مجرى دمائي. أنا نشيط وكسول معًا في تفهمك، أو فهمك. ما العلاج في فن الهُباء؟ لعلّه عندك يا طبيبة الداء، فما بالك لو أنت مُعالجة للوباء؟ أخبريني هل هذه الرغبة الجامحة في العزلة تلتهم الغربة. أم بها انتماء أقرب لإعتزال الناس؟! تذكرت قولة لشاعر البرتغال الأكبر يقول لنا في كتاب لا مطمئن وَضَعْتِيه على مكتبي قبل رحيلك: (” أن تفهم. معناه أن تنسى الحب! “)
ونشأت الأديبة تُبْصِرُ ما تحت رقتبي بعد كلّ مرّة من مطالعتها. وتميل برأسها إلى الهاتف غير مرّة. وتفاقم الصمت بسكونه حتى أبدت ما في لسانها من تحدثٍ مُبَادِرَةً:
ما رأيّك؟
في الرسالة!
نعم. ما رأيّك في الرسالة؟
فكرت وتفكرت. لا أعلم ماذا يتوجب على القول بأنْ يتمتم نيابة عني؟! لا أريد أن أخسر تلك الوظيفة. ولكنْ. لماذا لا تنظر لوجهي؟ وأنا أنظر لحدود قرصها الفتان بالشفافية! ماذا يجري معي؟ أأحب امرأة لم أرها. أأبصرها بصميمي، وتتبع تبصري بكيانها. أنا معجب كثيرًا بذاتها لا بإنجازاتها. ليس عليَّ أن أسرد نفسي في كامني على هذه الشاكلة. سأقع في الفخ لو تلفظت بالحقيقة. وانكسر مثلما انكسرت هي. هذه الرسالة من زوجها السابق، والحُبّ من طرف واحد مُدَمَّر ومُدَمِّر أشبه بقذف صاروخ في منتصف أرض برمائية؛ فيغتال أهل الطين والماء معًا!
لماذا شردت لهذه الدرجة؟ ما رأيّك في الرسالة؟
لا شيء. أممممممممم. جيدة.
جيدة فقط.
نعم.
هل لكَ أي تعليق؟ بل عليكَ أن تعلق من أجل الوظيفة الشاغرة.
أستاذتي المديرة. الصراحة المفرطة حماقة.
كن مختلفًا في الحمق، وتحامق بصراحة. ولنتفق اتفاقًا.
ما هو؟
لا تصارح من وراء حجاب، فالثقة طاقة متجددة لا تُسْتَحْدَث من العدم.
اتفقنا إذن.
هاتَ التعليق.
هو قال على لسان شاعر برتغالي (” أن تفهم معناه أن تنسى الحُبّ. “)
نعم.
فكيف يا سيدتي بمن لا يفهم هل ينسى أن ينسى؟
المشكل أنَّ النسيان حاضر في الذاكرة وهو من الماضي. أصحيح ذلك يا شاعر؟
صحيــــ………
آلفتني متدخلة بقوة الملاطفة في نبرة حانية، وهي تعلم أنّها تغير الموضوع بِرُمته، قائلة:
الصراحة.
الورطة أنَّ البعض بدون قصد يجرح اختيارات الماضي وهو من الماضي!
الصراحة راحة.
لماذا بكى الحاضر المرتاح – يا أديبة – في حضن الغد كأنّه شبيهٌ بالمستقبل، ولا يستطيع أن يكون هو؟!
لأنه ماضٍ!
بالضبط.
الأزمة أنّني ودعته قبل توديعه.
تأكدتُ الآن بأنّها انفصلت عن زوجها منذ أيام، فباغتتني مُستفسرة:
وأنتَ. هل ودعت شخصًا من قبل؟
آه. أبي. ولكنّه لن يودعني قط! هل تسمحين لي بسؤال؟
تفضل.
ما الحُبّ؟
الحُبُّ هو أن تقتسم كلّ شيء مع الحبيب: المخاوف، والآمال، والأحزان، والأفراح، والنجاحات، والذكريات، والفراش.
بصراحة أنتِ جريئة بقولك الفراش.
العقبى لكَ.
أن أقول الفراش.
بل أن تكون جريئًا. قل لي إذن. ما الحُبّ من منظوركَ الخاصّ؟
الحُبّ هو أن نقتسم كلّ شيء عدا الحُبّ والموت.
وكركرتْ الأديبة الضحك بابتسام طفوليّ حتى بانت أسنانها الشفافة.


فيلسوفة


فيسلوفي. سأروي لكَ سريعًا. لا يوجد متسع من الوقت.
لماذا لا يوجد متسع من الوقت يا فيلسوفتي؟
ستهبط في جسمها أثناء توقيت الولادة.
إذن أحكِ لي بسرعة القضاء.


صارت الأديبة تتمشى مع الشاعر بفرحة مغمورة في أنحاء الدار، متعقبة للإصدارات الجديدة المتجهزة لمعرض الكتاب، وهو يسير على خطاها. مشاعره مضطربة، وكلما زاد اضطرابه زاد اطمئنانها، والإحساس بالأمان في جواره. سألته عن رأيّه في المجموعة، وأخبرها بأنَّ القصة الأولى مسهبة، ولكنَّ بها بعض الإيجابيات كرسم إحساس البطل الجائع الذي لم يُطعم نفسه أي شيء سوى خبز يشتريه من مخبز المحبة، وكان اسمه خبز الهوى. أُغْلِقَ المخبز بسبب موت المرأة العجوز التي كانت تعجنه وتخبزه. وطَفَقَ يُغيّر الموضوع تجاه دُفة القصة الثانية منعًا من تهوره في خوض مبارزة السلبيات لقصتها الأولى. وأبدى: (” إنَّ القصة الثانية من الروائع. “) فسألته: (” ما معيار الروائع في عقلك؟ “) فالروائع تنقسم في منهجه التحليليّ إلى قسم مفرد: البناء الهرمي للقصّ الذي شرحه لها على هذا النسق: (” الطبقة الأولى: تكثيف الصورة. الطبقة الثانية: إرضاع الصورة بألوان البطولة. الطبقة الثالثة: تُفطن الألوان بصراع الشخوص. الطبقة الرابعة: يزحف الصراع نحو هاوية المنتهى. “) نظرتْ إلى وجهه، وأدركتْ للتوّ أنها سترى وجهين. رغبت في ذلك بشدة لا تستطيع حظرها من أفكار عينيها. وأخبرت ذاتها مفصحة: (” أنا مُخيّرة في ذلك السير. “) لاحظ وأنّها أخيرًا سترنو إليه. علم أنها سترنو لوجه غير موجود على خريطة الرأس. فهذا ما رآه في زجاج هاتفه المحمول. لم يبصر ملامح وجهه قط. وحينئذٍ غلّف الصدمة في صدره، وَحَلّقَتْ في قفص دواخله فقط. محبوسة في إحجام حيز الطيران المسجون بين عُشّ القضبان.


ألم تره يا زوجتي؟
اصمت واستمع واصبر.
حسنًا يا فليسوفتي. أكملي بسرعة ساحقة.


رَنَتْ إليه في إعجاب مبالغ فيه، ورأت وجهه متفردًا بهيئة غريبة عن العادة. فرحت بأنّها لمحت بكلتا عينيها وجهًا واحدًا وحسب، وحزنت بأنَّ ذلك الوجه الذي لطالما أحبت استبصاره كان طفلًا! احتارت هل هو فتى، أم شاب، أم غلام؟ استزاد فضولها اشتعالًا، وعزمت على الاستفسار منه وكفى. وقفت في زاوية مرصوفة بالكتب، وانتقت روايتها الطويلة التي فازت بجائزة غربية، وهو خلف ظلّها الذي وَمَضَ بالظهور المشوش. كأنَّ مصباحًا مُعَلّقًا في ظهرها يُشْعل ظلّها ويُطفئه. والشاعر آملًا ألا يهين ذاك الكائن الأسود بدعسة قدم. وبغتة أمسكت الأديبة برواية ما، ومررتها ليده محدقة في وجهه بتمعنٍ مفضوح:
اِفْتَح صفحة عشوائية، واقرأ أول جملة تقع عيناك عليها.
حاضرٌ يا أديبة.
انتظر.
ما الأمر؟
أتعلم ما اسم الرواية؟
السماء لا تمزح مرّتين.
إذن. تفضل اِفْعَلْ ما أُمِرْتَ به.
حسنًا.
وفتح صفحة 612، ورتل في صوت رخيم بالعذوبة:
المُخيّر في بعض الأحيان مُجْبرًا على أن يكون مُسيّرًا.
سارت أمامه، وربتت على الصفحتين المفتوحتين، ثُمَّ فاهت:
اتبعني رجاءً. سنذهب لبُستان الدار.


مشت في تباهٍ وخيلاء بين ورود البستان وحشائشه مغرمة بالتجربة الجديدة، واستدارت إليه سائلة:
لماذا تسير خلفي وأنت مبتعد عن طبيعة من يسير خلف الناس؟
بصراحة أخشى أن أدهس ظلّك، فيتألم.
فغرتْ فاهًا، وتكلمت:
الألم ثلاثة أنواع: روحي ونفسي وجسدي. وأنا أشعر بجميعهم.
انتظرتْ الأديبة قليلًا، واستفسرتْ:
لو قسّمت الآلام كيف ستفعل ذلك؟
الآلام نوعان: نوعٌ يترككِ كسيرة، والآخر يُرَمّمُكِ فَيَكْسِرُكِ أكثر!
أدخلت شفتيها داخل فَيْهَا في تحسرٍ، وقالت متناسية الحسرة:
كيف تقول هذا الكلام البليغ يا شاعر؟
من حضرتك الشفافة.
أتقصد حضرة صراحتي، أم تغازل جمال أقوالي؟
بصراحة… أنتِ من غازلتيني أولًا بقولك الكلام البليغ.
وصدحت بضحكة شفيفة الرنين حتى بانت تجاعيد جبينها، ولن تُنهي الضحكة حتى سمعت ضجيجًا صائحًا بقول سُكان الشارع وهم راكضون خلف لصّ ما: (” أمسكوا بذاك الحقير. “) عَلّقَ الشاعر هازئًا:
من الصعب أن تقنعي السارق أنّه مُذْنب، ومُعظم رزقه الذي سعى إليه سُرِقَ منه.
ما الرزق؟
أن يقتات على فتات من طاولة الأثرياء، وبعدما يسرق مفرش الطاولة؛ ليبيعه. لا تجوع أسرته لمدة شهرين على الأقل.
مذهل.
شكرًا.
ذاك التعريف الوضيع.
جزيلًا.
قرعا ضحكتين متوازيتين، وأخرجت حاملة السجائر المذهبة، وانتظرته يشعل لها السيجارة؛ فلم يفعل متصارحًا:
لا أدخن.
أفضل.
وبلا ريب أتمت نعمة الإعلان عن التسائل:
هل يمكنني أن أتكلم وتصغي إليَّ؟
بالتأكيد.
لا شيء يعاني أكثر من الحزن المكتئب من الكآبة ذاتها!
…………
هناك ثغرة في قلبي خاوية لا تنبض، ورغم حفلة توسعاتها المتسارعة أعيش!
………………….
هنالك أمل أعمى ينظر إلى كلّ صوب وهو لا يرى سوى آماله المظلمة.
………………………………
دورك.
اعتصر معجم عقله، وتدبر مفرداته سابحًا على ساحل اللفظ:
الأشياء التي تحدث مُقَدّرة بلا فهم ولا تبرير هي الأشياء الجميلة بصدق!
صحيح. اليوم وصلتني ورقة طلاقي الثاني وهي من الأشياء المُقَدّرة من خلال فهمي للتبرير.
ما هو غير مبرر يخضع للتفاعل الصريح بالعَبَثِ وهو مستسلم له. فلا بأس.
وأشعلتْ السيجارة بقداحتها الوردية. وأعقب الشاعر على أدائها في إخراج الدخان:
التدخين له فوائد صحية عديدة أهمها: التعجيل بالموت!
لأمت إذن.
ابنتك تحتاجك.
هل يمكنكَ أن تحارب انفجار بركان؟
يمكنني أن أرحّل الناس قبل انفجاره.
زعقت بتنمرٍ:
ما الأمر بالنسبة إليكِ؟ لا تعرف ظروفي؛ لتتحدث معي، أو عني!
الأمر وما فيه كأنّني أريد أن أهبك الحياة وأنا ميت!
أنتَ مجرد طفل بعدما اِلْتقيتك، وتعذبت لألقاك.
كيف؟
احتدمت نبرتها كأنّما قاربت البكاء المخلوط بالغضب:
وجهك طفوليًا. وأنا… أنا رأيت ابنتي بوجهها الملائكي، وآخر ينتحب ويبكي ويصرخ صباح اليوم. وأبصرت… وأبصرت ذلك المساعد بوجه رزين، وآخر غارق في الضحك على طلاقي. وأنت بلا وجهين. بوجه رضيع طفولي… اللعنة عليك وعلى شِعْرك.
ظلّ هادئًا بشكل لا يُحسد عليه. فكر أن يصارحها بشيء ما وهي تلهث بوتيرة مهرولة، والحوار بينهما مثل خيلٍ تائهٍ يجري أحدهما خلفه، ليمسك بلجامه، ويعود إلى شخص الآخر به، جالبًا إليه فرس الحريّة المقيد بالسّرّج المجهز للقعود! فتح هاتفه على مذكراته التي مسح أعمّها، وأظهرها لها، فرتلتها في تلعثمٍ بارز:
أغلب البشر بوجهين!
الوجهان شفافان!
الملامح ظاهرة، ولكنّها شفافة أيضًا!
اختفاء ظلال الناس!
أجساد البشر مرئية!
جميع الجمادات مرئية!
وجهي شفاف في مرآة الهاتف!
الفيسبوك مرئي على هاتفي النقال!
منشورات البشر مرئية على الفيسبوك!
الصور مرئية في حالة عدم وجود أي وجه!
الصور غير مرئية في حالة وجود وجه شفاف!
مساحيق التجميل تظهر على الوجه الشفاف بلونها الطبيعي كاللون الأحمر مهما كان شفافًا!
ابتسمت وهي تدمع في نعومة، مُهَمْهِمة في ذاتها: (” متى أضاف الشاعر لون أحمر الشفاه خاصتي! “)


فيلسوف


هذه الطفلة مازالت تدور في دمائي ولا تسير. هي واقفة أمام السير كأنّها تمشي كالصنم.
وهل الصنم يمشي يا زوجي؟
نعم. لربّما يمشي في بُعْد آخر من نسبية الحركة الأرضية.
من أين لكَ بهذا العلم؟
من أحد شعراء ما قبل الإسلام، وعالم فيزيائي شهير.
سألتني في تعثرٍ:
هل رأيتني؟
رأيتني رائيًا لي؛ فأغمضت عينيّ، ورأيتُ هيئتي بشكل أوضح فيكِ.
ثُمَّ قلتُ في نبرة لا تسهو:
سأودعكِ وستجلسين لمدة اثنتي عشرة ثانية فقط.
ثُمَّ؟
ثُمَّ ستهبطين إلى روحك، وتختلطين بذاتك.
أليس لنفسينا نهاية يا زوجي؟
كنا أمواتًا فأحيانا الرّب، ثُمَّ يميتنا، ثُمَّ يحيينا، ثُمَّ إليه نؤوب.
أليس هناك من ألمٍ يُعد نسل التوديع حفيدًا للوداع؟!
لا.
وهل سأنتظركَ كثيرًا؟
بل أنا من سينتظركِ أكثر.
كيف كنتَ تروي عن الأديبة والشاعر في ذات الوقت قبل البدء الدنيوي؟
شرائط من الأقدار، وأسطوانات حياتية تمرر ترويض الابتداء المنتهي. والحق أتم الحق أنَّ هذه الذكريات كانت تخصنا معًا، وحكى الشاعر للأديبة عنها خلال تطوير العلاقة.
كيف تتطور العلاقة بينهما؟
الحرمان، فالتشوق، فالاشتهاء، فالانجذاب، فالامتلاك.
سألتني في ارتواء للمعرفة:
ما الحرمان؟
مسافة للحريّة بين الحبيبين.
وما التشوق؟
حرارة الاندماج في تلك المسافة.
وما الاشتهاء؟
اشتهاء الآخر في ذات الآخر.
وما الانجذاب؟
رصد كلّ التحركات والقبلات بواسطة الهُيام بالآخر.
وما الامتلاك؟
أن يتملك كلّ آخر حرية الآخر، ويدافع عنها كأنّها خاصته. ويحميها حتى من نفسه.
هل هكذا يبدأ ما يُسَمّى بالحبّ؟
بل هكذا ينتهي.
استخبرتْ فيلسوفتي في استنكار:
كيف؟
في نهاية المطاف لا يستطيع الحُبُّ أن يكره غير نقصه، فالمشاعر تتقلب، والإعجاب يُفنى، والعقل إذا أحب عقلًا لا نهاية للأفكار.
أحيانًا أشعر أنني أفهمكَ كأنّكَ أنا، ولكنْ، المشكلة أنني في أغلب أوقاتي لا أفهمني!
واستطردتْ مُنفعلة:
نفسي. بقائي. وجودي. كلّ هذا مفصل من أقمشة النسيان التي تم تطريزها من مغريات الروح!
الروح تغزل خيوط الأفئدة بحياكة إبرة الحُبّ.
وَاِنْفَعَلَتْ بشدة في تعبير لم أفهمه:
أعظم صدقة عن القلب هو الحُبّ.
ما المقصد؟
أن تتصدق باسم من تحبّ، وتجعله مشاركًا لكَ في أجرك. ذلك هو الحُبّ.
ثُمَّ استهلتْ في إثارة التذكر:
حياة شاعري تشبه كثيرًا الريشة. تزحف. تمشي. تجري. تطير. تحلق. تسقط. تنهض. تتفكك. تتلاشى. تختفي.
وحياة أديبتي كذلك أيضًا.
وبأبأة في رعشة:
بــــ… بــــ… بـــ.. بماذا أستعين لو بكيتَ قبل تواجدي في أرض البشر؟
سأجعل دموع الأديبة تستعين بالسيل بلا قطرات.
إيّاكَ أن تجعلها كذلك.
منذ متى وأنتِ مُصرّة على ذلك؟
منذ زمن صوت القطرة الذي بكى داخل قلبي. فلا شيء حولنا يا فؤادي، ولا يد تطوقنا، ولا نبض يسمعنا. يدّقُ بعضنا لبعضنا. يا لها من وحدة!
ولبُرهة أعادت تدوير النسيان، وتذكرت مُصرّحةً:
عرفت أشياء عن أهل الأرض، وعلمت ما لا تعلم.
وأين لكِ بذلكم العلم؟
طرقعتْ ضحكة ذكورية كشاعرها كما رَوَتْ لي عن ضحكاته في شاشة عرض المُقَدّر له:
حالة التطرف بالمعرفة هي مفهوم لمعرفة أخرى!
أتقصدين أنَّ الإحساسَ بالخوارق لا يتجاوز القدرة على الشعور.
بل يتجاوز القدرة على العواطف المشعورة. ألم أقل لكَ أني أعلم ما لا تعلم!
زديني.
هناك نفوس ميتة قابلتها.
لا تخبريني بأشياء مرعبة عن الأموات.
النفس تموت.
قاطعتها مُتَصدّرًا للاستحواذ على كلماتها:
النفس المطمئنة تعود إلى ربّها…….
فقاطعتني قبل أن أتم آية السورة:
راضية مرضية.
بماذا أعلموكِ؟
الكبار يخطئون، والصغار يدفعون الثمن.
لم أفهم يا فيلسوفتي.
ولا أنا يا فيلسوفي.
واستباحت الحديث كثيرًا بالتواتر الحكاء كأنّما تتشوقني قبل هبوطي على روحي؛ لأصبح تلك الوليدة القادمة، وَلَفَظَتْ القول مرّة واحدة:
مُعضلة الأعمار.
ماذا تعني بقولكِ معضلة الأعمار؟
ستكبرني بمال أديبتك، وسأصغركَ بمال شاعري.
وما المعضلة؟
الرجل أفقر من المرأة!
وهل هذا حرام؟
إذا صرت فقيرًا بعد حياة مُرفّهة، وأحببت امرأة ثرية؛ فالحُبّ في حالتك حرام قهرًا!
ومن القائل؟
نفس فقيرة أدخلها الله الجحيم منذ قليل.
وبعد لحظة صمت قالت في غفلة:
وسمعت أيضًا عن درجة تفوق الحُبّ.
تلويت في استزادة العالم بجهله:
ما هي؟
العشق.
أاسمه الـــعــشــق؟
نعم. فهو على مدار الأعوام كالصلاة على طريق سفر. ولكنْ، إذا صليته قصرًا لم يُقْبَل.
ومن القائل؟
نفس غنية أدخلها الله النعيم منذ قليل.
ريثما انتهت من حوارها نُفِخَ في بوق النزول، وشيعتها سائلًا:
هل من معضلات أخرى؟
الشاعر أصغر من الأديبة.
أعلم ذلك. وهذه معضلة من حولهما.
وسكنتُ لأقل من لحظة، ثُمَّ بحتُ:
زوجتي الفيلسوفة. التافهون لا يحبون امرأة تكبرهم، لأنّهم يرون أنفسهم صغارًا.
أحسنت الفعل القائل. والآن. وداعًا يا زوجي. ووداعًا للفلسفة.
لا تقولي وداعًا.
ماذا أقول إذن؟
إلى لقاء آخر.
إلى أجمل لقاء…… انتظر يا زوجي.
ماذا هناك؟
قرأتُ ما يدور بخلدها من غير علمها. لانتْ في جهر سريرتها أنّها تحبني عشقًا، أو تتشغفني حُبًّا، فأسدلتْ الستار مُبْدِيّةً لمعالم الوداع بلفظٍ هلوعٍ:
لا تمت.
وقبل أن أجيبها اختفيتُ من أمامها، لقد تجاوزتُ العدم، وصافحتُ الفناء، و وقفتُ قبالة جدار منقوش على رأسه جملة: ( البقاء معدوم من التفاني ). وَلَمْ يحدث أي شيء ككل شيء حدث بالفعل. ونزلتُ ملتحمًا في طفلة تبكي بصراخ البكاء إلى أن ظنَّنتُ أنَّ الواقع هو الشيء المُهمَل الذي سقط من حقيبة الحقيقة. ونسيتُ الفيلسوفة وذكرياتها كلما كبرتُ في أعمار الأديبة، أَمَا هناك قوى أعظم تتجمل بتلك العودة المنسوفة من العدم؟! والرسائل الحواريّة التي لن ترسل إلى فيلسوفتي مُطلقًا هي الأصدق على الإطلاق.
وعندما بلغت أديبتي السادسة والثلاثين من عمرها رأت في رؤيا فجرية أنَّ شابًّا ما يردد ثلاث مرّات وهو يشيّعها:
لا تموتي… لا تموتي… لا تموتي…
وَتَرَكَ فؤادها مُنْقَرِضًا في حفريّات النبض!

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.