مؤمن عفيفي يكتب الوجه المائل الجزء الثالث


أديبة


الملاحظة السادسة: اختفاء ظلال الناس! وبصراحتك كنت تخشى أن تدهس ظلّي؛ فيتألم!
نعم.
أقبلتُ على إجابته غضبى:
نعم! أتقول الشيء وضده؟
ظلّكِ بات ظاهرًا لفترة محدودة من الزمن، وصار مشوشًا في تلك الفترة بين الظهور والاختفاء.
أخٌ من الرجال.
صدقيني. فأنا لا أكذب.
يا للجحيم.
ما الجحيم يا أديبة؟
إذا كانت الجنة لا تحتوي على كتب متخيلة في عقولنا.
هل نلجأ للتخيل الكاذب؟
لا تلجأ للناس، ولا تلجأ للخيال. في النهاية لن يتغير أي شيء سوى القدر المكذوب.
ما القدر؟
نسيت.
أم تناسيتِ؟
كلاهما.
إذا لم تستطعي النسيان، فأبشرك وبكل حسم أنّك تذكرتيه.
أشارت في عدم اكتراث ساردة:
ستمر عليك لحظة تزدحم بفرامل الكلمات، وتختلط بمزامير الحروف، وأنت واقف في لا مبالاة وسط إشارة كتمان البَوْح.
كأنّكِ تقدسين حُبًّا حَيًّا، ورغم ذلك نبضاته من جماد.
هناك عازل…….
شهقتُ الكلمات صبرًا، ثُمَّ استرسلتُ:
عازل ضبابي.
ماله؟
يعزلني عن أي قلب.
لماذا علينا أن نخاف منه، ونحن معزولون عنه!
لا أدري.
لو تبدد الخوف لما كان للشجاعة نصيبٌ من الجرأة.
إنّني أتساءل دائمًا كيف نحُبّ لو بات الحُبُّ ساهرًا يبحث عن قلب حيّ مات أثناء سكرة البارحة. من الواضح أنَّ هذا الشاعر لا يبالي. فعلًا هو لا يهتم بأي شيء سوى المبالاة! والبرهان عندما قال: (” نخاف منه، ونحن معزولون عنه. “) هل يحبني الآن؟ هل يُصَرّح بذلك؟ هو يصغرني بكثير. كيف أراه وهذا الوجه الطفولي هو وجهه الوحيد؟ لكم تمنيتُ أن يكون ذا وجهين. فالحبُّ من وجهٍ واحدٍ كأنّما يقول له لو تكلم: ثمة شيء فارغ بداخل اللا شيء يزداد امتلاءً. ثمة مرآة ميتة لا تحسُّ فيها بقلب آخر، ولن تجسُّ فيها دقات الزجاج. وثمة صورة في المرآة تبحث عن اللا أحد!
والطفل القابع بوجهه لا يذبل أبدًا. هو يتحول بعد الذبول إلى طين البذرة التي أنبتتني في زرع ملامحه. ماذا لو هرم فجأة بلا تقدم عمره؟ الأطفال ملائكة. والملائكة تتحول إلى شياطين عندما تهجر النور. ما أرويه لنفسي هو رواية ذاتي مع حقيقة نفسي. هل الحقيقة تحتمل الكذب؟ خدعتُ أناي بحقارة. وصدقتُ الحقيقة التي في أصلها كذبة بيضاء! وأنا راويّة الحقائق بالأكاذيب، لن يصدقني الكثير من الناس، ولم يظن فيّ الكذب أنّني كاذبة، حتى إذا ظهر كذّبته، ورميته بالإدعاءات الفارغة من إحقاق الصدق!
لاقتسام القلب مع مَنْ أهوى شيئًا ما ورائي لدراما العشق. مواجهة، وتصارع، وتعارض ذاتي، وغير ذاتي. تمرد متغطرس على احتدام التعارك. اتحاد مندمج في ذات الآخر. كأنّني داخل مَنْ أحبُّ وهو داخلي. ولكنَّ الحقيقة كلّ الحقيقة أنّنا نسير في خطوط خارجية متوازية بالالتحام التام كتلك الشبكة التي يغزلها العنكبوت. فإذا أتمت التكوين ظلّتْ بيتًا للفريسة. سمعتُ نبرة الشاعر تجذبني:
بشكل تحليلي مفصل ليس هناك رأيٌّ بعد نقد الرأي!
شكرًا على هذا. قل لي: ما نصيحتك لدور النشر؟
نصيحتي لدور النشر المحترمة في دول العالم الثالث: أنشروا كتب التغذية، وكتب التنمية البشرية، وكتب عن بناء الصحة الجيدة، وفي النهاية الروايات. وإياكم وأي نوع آخر؛ كي لا تخسروا!
من الغريب أن تقول ذلك وأنتَ شاعر!
لا يوجد عودة للكتاب.
أتعتقد ذلك حقًا؟
إنَّ العودة للكتاب تشبه كثيرًا العودة إلى الضمير، لهذا الناس في وطني لا يعودون لأيّ منهما.
لا تنافق الصمت؛ فيتكلم.
ما الذي ترمين إليه يا سيدتي الأديبة؟
هل كذبت من قبل؟
كلنا كاذبون بصدق الأكاذيب. يقولون لي اِسْتَرِحْ. ولا وقت عندي للتعب من التعب.
وكأنني بي معكَ، وفقدتُ الأنا.
اصبري حتى لا تفتقدينني.
ارتبكتُ من أسلوبه، وكأنني فتاة لم تمر بأي تجارب زوجية فاشلة، فبدّلتُ الحوار متسائلة في هيمنة التعقل:
ما الصبر؟
الصبر عملة نادرة وجهها الانتظار، وقفاها التصبر على الانتظار!
وماذا بعد الصبر يا سيدي؟
الصبر.
وماذا بعد الصبر للمرّة الثانية يا سيدي؟
الصبر.
وماذا بعد الصبر للمرّة الثالثة يا سيدي؟
الموت.
وما فائدة الصبر في الدنيا يا سيدي؟
في الآخرة تحصدين أجره.
في سري: ” ما هذا الرجل أقول له الدنيا، ويحدثني عن الآخرة! ” فغيرتُ مجرى النقاش:
هل في معدة الصبر عملية هضم الرضا؟
الرضا كلمة في منتهى السخافة من أجل التوقف عند نقطة لا تسمن ولا تغني من جوع التقدم.
هل لو رضا الإنسان ظلم نفسه؟
كان الظلم أعدل من العدل بالنسبة للعادلين الذين تعاملوا مع الظلم على أنّه ظاهرة طبيعيّة!
وتكلمنا في ذات الهُنِيْهة:
لكم أودّ ألا ينتهي الحديث معكَ.
لكم أودّ ألا ينضب الحديث معكِ.
ثُمَّ أبديتُ رأيي في تأوهٍ ثابث:
آه يا ربي لكم ظلمنا الظلم بأنَّ هناك وجودًا للعدل. أتعلم هناك جملة من خواطري تتقزم بالوضع الحرج قائلة: نتغنى بالعدالة، والأخيار يجلسون على الشاطئ، وقد حُرِموا من السباحة، والأشرار يحطمون الأرقام القياسية للخير في بحور الدنيا الهزلية!
أحيانًا نبحث عن مرسى، ونحن على الشاطئ!
صحيح.
رنَّ ما ران الاسم في قلبي وأنا أشعر برناته. فلبيتُ النداء بدون اهتمام بالاسم الموضوع على شاشة الاتصال، وأجبت:
مرحبًا يا بُنيتي.
مرحبات يا أمي.
ضحكتُ على جمعها لكلمة (مرحبًا)، وسألتها:
هل عُدْتِ للمنزل؟
نعم. لم تتصلي. فاتصلتُ بكِ.
شكرًا لاطمئنانك على والدتك. اِعْتَنِي بنفسك جيدًا.
وأنتِ أيضًا.
أَغْلَقَتْ ابنتي المكالمة أولًا. وانتهى دوام الدار، وسلم عليَّ جميع الموظفين بالتحيات والسلامات، وأتى مساعدي متسائلًا:
هل تسمحين بسؤالٍ للشاعر؟
تفضل.
فسأله في عزيمة:
ما الإنسان؟
أمممممممممممممممم.. هل قلتَ ما؟
نعم.
كائن آلي مُبَرْمَج على الفراغ من المشاعر، والخلو في الأحاسيس.
رفعتُ حاجبيّ معجبة بإجابته، وأومأت برأسي لمساعدي أن يتركنا سويًّا. ونظرتُ في الهاتف؛ لأهذب وضعية شعري الطويل، وعلى حين المفاجئة انعكس بزوغ وجهه الثاني على مرآة هاتفي أثناء مَيْلِهَا بالصدفة على رُبْع ملمحه. يا الله! يا رب السماوات! اقتربت بالمرآة ناحية وجهه كُليًّا. وعيناه تشحذان التحديق في دعاء إلى ما وراء السحاب. كأنّه يصلي برؤية أبيات تطوف حول قصيدة ما، فتشطر الأشواط حول الملأ الأعلى بالإلهام الشاعري. لكم هو وسيم ذلك الشاب. كلما أراه أدير الشاشة إزائي ولا أراه. يا لحماقتي! جلست ملتصقة بجسمه. اِنْدَهَشَ من هذا الالتصاق الفعلي، وتفاعل معه بالسكون والتسليم، وقرّبتُ شاشتي رويدًا رويدا صوب وجهه الطفولي، وقرقعتُ بصيحة كلها تفاؤلات: (” هأنتذا بوجهك.. هأنتذا… أرأيت “).


الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.