مؤمن عفيفي يكتب الوجه المائل جزء ٤


شاعر


ألا ليتَ الزمانَ يعيش دهرًا
فأخبره لِمَهْ وَأَدَ الحليمُ
كأنَّ ملامحي في نجمِ خَطْوٍ
كإحرام الحجيجِ وما تَهِيْمُ
ويبدو نبضيَ المغلوبُ لحنًا
فيشدوهُ المتيَّمُ والكليمُ
وما نفسي سوى عودٍ تثنّى
ليُضْرَبَ أو يداويني السقيمُ
فكل ابتسامةٍ للروحِ جُرْحٌ
وإضحاكي عذاباتٌ حميمُ


قد أَهْدَيَتْ لي حلوى اللقاء بعدما انهار صياحها بدمعات مخلوطة بالفرج. كنتُ أعتقد أنَّ النساء كائن يتباكى، والهاتف ينحدر مع دمعاتها البلورية فحسب، وأنا أحبس أدمعي المشروخة، لئلا أبكي مع قوافي عينيها. وعلى شريان الانعكاس لزجاج الهاتف، وعلى شامات خديها اللا مرئيين، وعلى عروق وجهها الشفاف كانت هناك… هناك فقط… كلمة باكية. أنينها مسموع، وكتمها للدموع لا يُسْمع. لا أدري. أيحدث هذا مع جميع البشر. هنا طاقة غير طبيعية في أعماقي. أريد أن أبكي بحرقةٍ، ولكنَّ البكاءَ لا يسكب الدموع، كأنّه يخزن مياهه المتكوّمة في أعصاب الحزن المشلول. وكلّ الذين أحببتهم مازلتُ غريبًا عنهم، كأنّني نائم على وسائدهم المهجورة! أنا غريب الداخل، ومغترب الخارج مهما انتميت إلى أي شيء لا أعدو كوني مُنتميًا سوى للغربة! وتلك الغربة وطني الأول المنتمي إليَّ، فأغترب عنه، وفي جميع الأحوال يأويني!
أنا حاضر في غياب مكبوت، أُطَارَد ولا أطَارِد بين جمادين محتارين: بالون أم منطاد. منطاد أم بالون. وأنا سجين فقاعة الاعتزال! حضوري ليس غائبًا. هو فقط يحاول أن يختفي في زاوية ممنوعٍ أن يطأها قدم. وفي النهاية أَصَوْلُ وأجول بجملة: (” أن أكون غريبًا. يا له من انتماء! “)
وها هي الأديبة تطاردني عندما يرتدي ذلك الغائب الذي بداخلي حضورها؛ كي لا نغيب معًا. هي مؤمنة بي من كثرة ما اكتست ثياب السعادة للحدث الذي ترويه. (” هأنتذا بوجهك.. هأنتذا… أرأيت “). (” هأنتذا بوجهك.. هأنتذا… أرأيت “). وتساءلتُ ومرآة هاتفها تسلم على سطح وجهي: (” متى يبلغ هذا الإيمان درجة الصدق لو لم تحب لأخيك ما تحب لنفسك؟ “) الورطة أني لستُ أخاها. أحسُّ أنَّ بباطني شيئًا مُعْتَمًا كالقمر قبل أن تصافح أصابعه الشمس! وهذا الخواء الأرضي خالٍ من الفراغ كأنّه ممتلئٌ به! ماذا رأيتْ؟ لا شيء. خواء وفراغ. وجهي شفافًا بالكامل. سألتها في خيبة:
هل يُمْكِنك أن تُبْعِدي الشاشة قليلًا؟
بالتأكيد. بالتأكيد.
قالتها في ثقة وإصرار. وَشَرَعَتْ في الابتعاد عني مُصوّبة مرآة هاتفها على وجهي. وتَرَاجَعَتْ خُطْوة إثر خُطْوة. وَاِنْبَرَتْ للحديث معي في كلّ خطوة كأنّما تخشى فقداني بعد رؤيتها لوجهي:
الكل جاهل إذا لم يجب على أي سؤال بقوله (لا أعرف)، ولكنَّ من رحمة الحبّ أنّنا لا نحب إلا إذا قلنا لا نعرف!
وهل عرفتِ؟
أعرف بأنني الآن لا أعرف!
ارتجفتْ نبرتي مُتَقلقلة:
عليَّ أن أصمت كثيرًا يا عزيزتي، فأنا لا أتسول الحُبّ.
كم الحديث أجمل لو باح بالصمت!
يبدو أنَّ الصمت يحتاج لمهارة غير عادية، كأنّكِ في حالة من تناسي الأبجديّة.
تقريبًا. وقفتْ على بعد اثني عشر مترًا، ولم تتحرك غير بضع سنتيمترات يسيرة. وسألتني:
هل ترى وجهك الشاب؟
لا.
ما الذي يُغيّر حياتكَ؟
لا شيء.
الإيمان!
أنا سُلِبَتْ مني الحياة، فكيف أعبأ بالإيمان؟
كأنّه الهوى.
لا هوى، ولا غوى.
أمممممممم. يا شاعري.. إذا كان الحُبُّ أنانيا فكيف يتفانى في تعاطي الأخذ بالعطاء؟!
التملك والتخلي عنه هما التمسك بتشكيل الحرية، ربّما يكونان كالتلاعب بالصلصال. أو كلعبة السلم والثعبان، أو بنك الحظ. لنستثني أنا وأنتَ بنك الحظ. فالحرية ليست مصرفًا للحظوظ. هي اختيار دائم. ولكنَّ عيبها الوحيد أنّها لا تدوم!
يوجد شيء عبثي يدعو لإحياء العدم من الوجود. وأنا بي رغبة شديدة لا ترغب في أي شيء غير رؤية وجهك!
هأ… ما أحرص الذين لا يمتلكون أي شيء سوى امتلاكه.
ما الذي يشغلكَ لهذه الدرجة؟
لو هناك شخص مديون، ويحتاج المال، لا لكي يشتري شقة، أو سيارة، بل لكي يسدد ديونه. ويدعو الله كثيرًا، والديون تزداد أكثر فأكثر. فما حمق الدعاء غير أنَّ الشخص لا يريد أن يكون مديونًا؟ وما الخير والشخص لا يتسطيع أن يعول نفسه؟!
كلّ شيء وله حل.
طالما المشكلة ليست متعلقة بنا فالحلول كثيرة!
لأصارحكَ… كلّ ما فيكَ من لا شيء يعني لي كلّ شيء.
بحثتُ عنكِ في سواكِ… فانتشى كُلّي ليهواكِ.
يجب أن نخلق نمطا مغايرًا للحبّ، وكأنّه مخلوق مُشْتَرَك من اللا بغض.
عادتْ جالسة، وتشابكتْ بوئامٍ يُلْصِق نظرات رموشها بعينيّ، فاقتربتُ من أحمر شفاهها لاعقًا شفتيها بنهمٍ يداهمها كآثير منعش يسحبني إلى عالم أنثوي مليء بالنعومة الناضجة، والليونة البضّة. عالم أكون فيه هي، وهي وحدها منفردة بي. بعيدًا عن ضجيج النفوس المحلقة في كوكب البشر خُلقت شهقاتها، وأنفاس شفاهها في تبادل مُرْتَدّ بالتقبيل المفرط لاستخراج طاقات متجددة من جاذبية التذوق. وشهية أكل الرقبة الطويلة من طرفيّ، والغوص في رائحة الشعر العنبري عند كلّ ضمّة. وَعَضَتْ الأديبة كتفي الأيسر عضة رقيقة متينة بعبير الشهوة، وعندما صَيّرَتْ نفسها صورة طبق الأصل من روحي، لا تكون قدرتي بقادرة على الانفصال من لعاب شفتيها، وإنّما تقترب المقدرة على تغيير وضعية القبلات، ويصبح باستطاعتي أن أظل الصورة الملتقطة لعدسة تقبيل فؤادها ونهديها، والكاميرا ما هي إلا نسيج مني، وأعضائي وما تبقى من أجزائي المبعثرة مثل ألوان الصورة وذكرياتها وحدها هي من لملمتهم في أحضانها الدافئة بضغطة الانتشاء. عامةً. سقط هاتفها منها حين توترتْ بعض الشيء في تشرب أمطار شفايفي، وابتعدتْ عني بحجم صوت سقوط الهاتف. مولولة:
يا الله ماذا فعلت وسأفعل؟
تقبيلين طفلًا!
اخرس.
حاولت أن تصفعني. وبالفعل قامت بذلك. مَرّ كفها من خدي إلى خدي الآخر. بَحْلَقَتْ بناظريها لا تُصدق. كأنّما أرادت أن تستنطق الحُبّ بكل الأفعال المتاحة في تصميم خواطر رفضها، تستنطقه بتعابير معجبة، أو بأسئلة مستعجبة، بمفاهيم متحيرة، وحيرة متسائلة، تستنطقه مُزعقًا وصافعًا، أو مضطربًا وساكنًا. كأنّما تفاعيله مقطعة على أوزان بحور الشعر العمودي، ولكنَّ القصيدة حرّة في غيظ فرحها، مرتاحة لأحزانها. تتفوه بمحاولة ترتليها كأنّها نشيد للوطن، كأنّها تراتيل دينية، كأنّها نفس تنمو على غذاء إشعاعات البدر، ولا سيّما أنَّ الإجابة الحقيقية في الفراغ عن الاستنطاق، والتفوه، والترتيل، والقول، غير مرغوبة وغامضة، وكارهة للمقت؛ لأنَّ وجه جلالها ذو ضد!
ابتلعتُ ريقي بصعوبة، وبقايا رحيق لعابها أتذوقه مُنتشيًا، وحلمتُ بخيالي أنّني أعانقها باندماج جنسي. ولجت فيها، وسلّمت بولوجي بين قوسيّ فخذيها بالشبق اللا متناهٍ. ومع الأسف بدأت عيناي بالانفتاح على توهيم الحلم؛ فإذا بها تضمني بشفافية جسمها متأسفة، وجسدي كأنّه اختفى بداخل صدريها، وأنا الآن في رحلة البحث عني. يا أنتِ هَلَا بحثت معي عني؟!

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.