فيلسوفة
زوجي الحبيب خلال الثانية السادسة أبلغك بأنَّ القضاء لم يبدلني خَيْرًا منكَ، فقد آويتني حيث طردني الجميع، ونصرتني حين تخلت عني النفوس، وصدقتني حين كذبني الانتظار بالتصبر، وآمنت بي وشجعتني، وَرُزِقْتُ منكَ إنجاب السقوط حيثُ مولد الوليد.
مالت الأديبة بجسدها من أجل اِلتقاط الهاتف الواقع على حشائش البستان. ومؤذن الهاتف يُفْعم الرنين في الأجواء؛ ليذكرها بالصلاة. وعلى حين المباغتة أمسك بيدها الشاعر؛ لئلا تميل لإجلاب الهاتف، ولكنَّ يده مرت على كفّيها وتجاوزتهما. رَنَتْ إليه في ارتعاب، ورد إليها النظرة في ريبة. علم كلاهما أنَّ جسميهما شفافان! أرادت أن تختبأ في قامته الفارعة من شدة الرعب، وَهَمَّ بها وهَمّت به لولا ما أصابهما ممّا هو متخوف لمارسا الحُبّ على كرسي البستان المريح. وهو ينزل لاِلتقاط هاتفها وهي خلفه باستماتة. مازالت مائلة بعودها الرقيق خلف ظلّه مباشرة. أولجت كفها في ظهره؛ فغاص في عموده الفقري، وأخرجته مُرتجفة. كان الشاعر أشبه ما يكون تحتها. وأخذته الصاعقة وهو كظيم. وطلت نبرتها بطلاء الاستغاثة به، قائلة:
أرتعش بردًا في الشتاء من الوحدة يا شاعري.
لا ولم ولن يجيب على حديثها الشتائي. بل كان يلبس جلده فقط، أمّا ما تحت هذا الجلد فقد كان عاريًا تمامًا! وهو يبذل كلّ مجهود؛ لكي يخلع عنه معطف جلده الذي أحس بثقله على أضلاعه، ليدفئها به. بالأحرى تمنى الشاعر أن يؤدي ذلك الفعل خلال اكتمال وجه التمني. وكادت هي بضلوعها أن تحتمي فيه، وتمادت، فَعَبَرَتْ من خلاله هابطة بسلام على الهاتف. نظرت في انعكاس صورة هاتفها الذي قارب الظلام على إخفائها في سواده القمري. أوشكت أن تحدث الشاعر عن صورته الطفولية، وأخفى عنها ما رآه. بالطبع لم يبصر حقيقته. بل أبصر حقيقتها. لقد! لقد بادل القبلات مع امرأة عجوز وجهها مَحْشوًّا بتجاعيد جدته التي بلغت الرابعة والثمانين، وماتت في نفس العمر! وكلّ ما فات من قبلات وتخيلات وتمسيدات باتوا توهيمًا للتوقع، وحيودًا للحقائق عن شمولية طبيعتها! وكلّ لمسة من أصابعهما مضادة لوجهين آخرين، فيصطدم خفاءهما بما هو شفاف، فإذا بهما يختفيان عن توليد الظهور، وإذا هما فانيان!
رآها في وجه المرآة فألتقى بها في غربة انعكاس الصورة، ولكنّه في الحقيقة ليس بجانبها. هو الغريب المنتمي إلى تسبيح وجودها وعدم تواجدها. هو الأجنبي المرتل لروحها المرتحلة مثل سورة الواقع الغير واقع في وهم الحقائق. فإذا به يردد بعدما توضأ بصورتها: حيّ على فلاح الانتماء المغترب، وكبّر تكبيرة الحبّ وشرع في صلاة جماعة من مثنى: الائتلاف والألفة. وَسَلّمَ وثَمَّ وجهها على يساره، فلا يدري دراية متحققة: أكانت مرآة عينه تنسخ هيئتها بعد التسليم، أم أنَّ فؤاده الأيسر تناسخ زجاج توديع المرآة ذاتها! فواجهها:
كلُّ الذين حدثوكِ عن التغير والتغيير كاذبون.
وكلّ البراكيين الهائجة ستهدأ بلا ثورة عندما تهوى وتصارح صدق الحبّ بالانفجار!
أريد أنْ أهرب. عليَّ أنْ أهرب. يجب أنْ أهرب.
إلى أين؟
إلى الهروب.
ستفارق الهروب الميت كلّ يوم حتى يموت في يوم ما، ويخطفك بلا انتظار، وبدون أي صبر ليحيا!
أتعلمين يا حبيبة الحُبّ أنني كنت مهدومًا بالكامل، وأشيد تحليلًا لقصتيكِ.
أن تعطي وأنت مفلس ذلك هو الكرم.
كنت أكرم من الكرم معكِ.
كيف؟
اِعْطَيْتكِ وأنا في أوج الإفلاس.
ففاجئته متسائلة:
ما الواقع؟
جزء كبير من الأوهام لا يمت للحقيقة بصلة.
وما الوهم؟
الحقيقة ذاتها.
وشوشته في دلال:
الحقيقة هي أنَّ الحياةَ مزيفة، وأنَّ الموت هو الحقيقة. احذر! لا أحد يعي ذلك حتى كاتبة هذه العبارة!
ما شعوركِ حيال الكتابة؟
حينما أكتب أشعر أنني أحلم وأنا متيقظة، وأسكن في عالم الخيال، والقلم ينفي الخيالات بالحقيقة.
دندنت في تضاحكٍ رقيقٍ، وقالت:
تذكرت شيئًا.
هل يمكنني أن أعرفه؟
بالطبع. (” ما الوطن بالنسبة للفقير المثقف يا رجل الوطنية؟ “) سُئِلَ هذا السؤال في رواية ما.
وماذا كانت الإجابة
رد عليه الفقير في حزن باسم: (” من الممكن أن يكون متسولًا! “)
ولم تكمل تنوين المتسول حتى سألها:
ما الوطن بالنسبة لامرأة ثرية مثلك؟
ردت في عزيمة وتباهٍ على سؤاله:
بالنسبة لامرأة ثرية مثلي الوطن جنة عليا. وبالأخص أنني أمقت الترحال والغربة. سأرد إليك السؤال ( وفي ابتسامة جذابة ) ما الوطن بالنسبة إليكَ يا شاعر؟
كان يفكر………………………. ويبعث التفكير مُفكرًا:
حتى الوطن يا سيدتي لاجئ يبحث عن وطن.
هل تشتكي منه؟
بل أشتكي عليه؟
لمن تشتكي؟
للوطن!
وما شكواك؟
لماذا منحتني جنسيتك؟
تتوه في نفسكَ، فتعثر على ذاتك، وتستمسك بذاتك فتضيع نفسكَ!
هناك قصة.
افحمني رجاءً.
صلبوا شاعرًا يتعمد أمام أجراس الجوامع، ويصلي خلف آذان الكنائس. وفي عزائه طلبوا المغفرة من الرب بقصائدٍ من ديوانه الأخير!
الشعراء هجروا القوافي، واخترعوا النثر الشعري؛ لأنّ العالمَ لا يحتمل الغناء. أفسدوا الموسيقا بالغناء، وأهالوا على الغناء آلات صاخبة!
صحيح. ولكنْ.
ولكنْ. ماذا يا شاعري؟
قلما أجهل إذ ازددتُ جهلًا بأنّني لا أعرف.
أصبت.
شَرِدَتْ قليلًا، وَشَرِدَ هو أكثر منها، فأثارتْ فقده:
كلمة تخبر بها والدكَ بشيء.
أبتاه. لقد قتلوا كلّ أحلامي، وحينما ذهبتُ للنوم قالوا لي: اِسْتَعِذ مِنْ الكوابيس!
كيف يغدو هذا العالم؟
كما يغدو الجاهل بالمال أسطورة للتعليم!
هل دعمك أي شخص من الناحية الأدبية؟
الدعم الأدبي أن أمتلك مالًا؛ ليحترمني الجميع، وسأنشر عملي بحق، وأموال التسويق ستجلب لي أضخم جمهورًا طالما مازلت أدفع للإعلانات ببذخ.
هزت رأسها في موافقة، وصرّحت بشيء جديد:
في أثناء تكبد العناء الشقي ترى الأمل مرتاحًا لو تأمل.
لو تأمل الفراغ أولًا؛ ليتأمل العناء الشقي!
قامت وهي مبتعدة عن الكرسي الذي يجلسان عليه:
قصص الحُبّ الغير مكتملة أكمل من قصص الحبّ التي يخلدها الزواج!
أديبتي. ماذا لو صار للحبّ ضمير يغلّف المشاعر بالتربيت على الفؤاد راجيًا: رجاءً لا تتبدلي أيّتها المشاعر.
وقال أيضًا في مرتجى هواه: رجاءً إياكِ أن تتبدلي يا عواطف المشاعر!
فرّ طيف من السؤال الفريد في عقليهما معًا:
(” كيف للأرواح أنْ تُغلق ( على لسانها ) وهي تقيم اتصالات بالعالم الخارجي! ( على لسانه ) “)
سار صوبها متقربًا نظير لما هو أدنى من قهوة دلة تُصَبّ في فنجان، وركضت نحوه مقتربة جدًا منه. عانقها بعناية، ونستْ هي العناق في ضمة ملتحمة. وبعد اثنتي عشرة دقيقة اكتشفتْ أنَّ ضمة العناق كانت غير مرئية مثل القبلات والأحضان، فأمسكَ بيدها الشفافة وهو عليم بالأمر. وأغلقت يدها على كفّيه بشفافية ملائيكة. وحرارة دافئة من نيران روحها تقتل لعبة التلهي. وقبل أن تحتضنه برعاية مشتاقة. علمت أنَّ حياتها بأكملها غير عادية، وصامدة في اختياراتها، ولها قوى ناعمة أهمها: قوة الجسد الشفاف، وظاهرة غائبة في وجه مائل.
قالت الفيلسوفة – التي هي أنا – قبل نفخ البوق:
أنتَ.
فأجابت ذاكرة زوجي الفيلسوف في لحظة نفخ بوق هبوطي على ميلاد الوليد:
أنتِ.
وقالت الأديبة وهي تبلغ الثانية عشر من عمرها في حلمها الحالي:
كأنّي بداية لا نهائية تُغْلق فكرة النهاية المغلقة!
وقال المولود الجديد لاستهلال الحياة:
واء… واء……
وكانت تلك الرحلة جويّة في طائرة الغربة، متجهة نحو بلاد العزلة، هابطة على مطار الوحدة. وأنا مع جماعة الأعضاء التي يتكوّن منها جسدٌ لذاك المولود الجديد بعد اثنتي عشرة ثانية بما يعد أهل الأرض اثني عشر عامًا من لحم ودم وروح!
تمت