القوة التأثيرية لعتبة العنوان في قصة (آسر) لمنى الجبريني تقدمها د. إيمان الزيات – عضو اتحاد كتاب مصر


القوة التأثيرية لعتبة العنوان
في قصة (آسر) لمنى الجبريني.

د. إيمان الزيات – عضو اتحاد كتاب مصر

“الكتاب بيبان من عنوانه” لم ينشأ ذلك القول الدارج ويشيع من فراغ، بل اتكأت المخيلة الشعبية فيه على الملاحظة الدقيقة والادراك المتحقق لمدى تأثير العنوان على تكوين الفكرة العامة، ومدى ما يحمله من مُرسلات حول المحتوى.

فقد يعمل العنوان لصالح النص الأدبي أو ينقلب ضده فيكون سببا رئيسا في العزوف عن قراءته أو عدم الاقتناع بمحتواه.

لذلك فإن للعنوان قيمة وقوة تأثيرية ليست بالهينة ولا البسيطة؛ فإذا نجح الكاتب في انتقاء عنوانا ملائما لعمله فأغلب الظن أنه بذلك يكون قد كسب نصف معركته الكتابية، وفتح الباب برحابة للقراء، فعلى الرغم من كون العنوان مجرد كلمة أو بضع كلمات بسيطة الا أنه يؤثر على الكيفية التي يستقبل بها القراء القصص.

ولا عجب مع هذه الضرورة وذلك التأثير أن يسوق لنا المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي عتبة “العنوان” ضمن ما أصطلح على تسميته “بالرؤوس الثمانية” (845ﻫ) حيث قال: «اعلم أن عادة القدماء من المعلمين قد جرت أن يأتوا بالرؤوس الثمانية قبل افتتاح كل كتاب؛ وهي: الغرض، والعنوان، والمنفعة، والمرتبة، وصحة الكتاب، ومن أيّ صناعة هو، وكم فيه من أجزاء، وأيّ أنحاء التعاليم المستعملة فيه».

ومن بين الطرق الناجحة لاختيار العناوين السردية بصفة عامة تأتي طريقة تسمية النص باسم الشخصية الرئيسية، وهذا هو أحد الخيارات فائقة البساطة، لكنه قوي ومثير شرط تنفيذه بطريقة صحيحة، فهو يفرض بالضرورة أن تكون هذه الشخصية محورية للغاية ولها طباع مميزة أو مرت بأحداث غير عادية، ليقتنع القارئ في النهاية بجدوى تسمية القصة ككل باسمها.

على جانب آخر، تحتاج للاعتماد على اسم شخصية مميز وله قابلية لأن يعلق بالذهن. وهذا ما تحقق بالفعل في قصة (آسر) لقاصة مدينة بورسعيد الباسلة القاصة المميزة “منى الجبريني” التي جعلت بصيرورة الأحداث من شخصية البطل شخصية آسرة لمشاعر البطلة وكيانها ككل، وذلك من خلال تضحيته بحياته من أجلها ومنحها قلبه لتعيش هي جسدا ويعيش هو بداخلها كذكرى لا تنمحي، ونبض لا ينقطع.

وعلى الرغم من تكرار تلك الفكرة إلا أن الاعتناء بمفردات السرد القصصي خاصة اللغة الإبداعية الرشيقة، وطريقة نسج الأحداث وتسلسلها، ومسرحة المكان القصصي وشيوع الزمن النوعي الذي يطول ويقصر وفقا لمشاعر الأبطال، كل ذلك كفيل بأن يخلق عملا مشوقا، والعمل الشيق هو عمل ممتع وهذه هي النتيجة التي يرغب كل كاتب في الوصول إليها.

يحقق آسر في النهاية مبتغاه في الاستحواذ على البطلة حيا كان أو ميتا، ويحضر في مخيلتها لتذوب بحضوره الطيفي هذا كل المفردات الفيزيائية الملموسة الأخرى، فلا يبقى في حياتها سواه والنغم الذي تتغنى به البطلة.
_________________________
(  آســـر )
بقلم/ منى الجبريني
تصفيقٌ حاد , نداء يهز الأرجاء , الجميع يتوقون إليها . ترتجف أرواحهم في انتظار لمحةً منها , لتروي عطشهم الجارف . آهةً واحدة منها , فيخرّون للأذقان سُجّدًا , بينما ترتفع هامتها كمعبودةٍ مُقدّسة . تُدرك جيدًا قيمتها لدى عاشقيها , تعتلي خشبة المسرح , بينما تومئ لمُعجبيها بتحية إعزاز , ثم تمنحهم قبلةً عبر الأثير , فيتهاوى الرجال تحت أقدامها , بينما النساء تنهمر منهن الدموع كالسيول .
يصدح صوتها بنغمةٍ شجية , عذبة , ترتجف لها القلوب , بل تستعير قلوب الحاضرين , تشققها بحرفية جراحٍ خبير . تنتشل الأحزان من الأفئدة , فيستحيل البكاء إلى نورٍ ساطع , لتسري البسمة فوق الوجوه. أمواجٌ من السكينة تعتلي الهامات , بينما تلمع الأعين بانتشاء , يهتف أحدهم بعشقه لها , فتمنحه ابتسامةً حزينة . تداعب أناملها النسيم , فتغزل بكلماتها عشقًا سرمديًا , رغم انتفاء المحبوب .
لا أحد يعرف أن أغنيتها , التي تجترح المعجزات , لم تكن ستخرج إلى النور . كل حرفٍ منها يحمل الكثير من الأسى , العشق , الغرام . صادفته بإحدى الليلي المُقمرة , تشدو بأعذب أغانيها في حفل زفافٍ لابنة رجل أعمالٍ شهير . تمايلت على أنغام الموسيقى , التجأت إلى صديقتها وقت الراحة . تُباغتها صديقتها به , ليخطف قلبها منذ اللحظة الأولى ” آسر ” , اسمه و صفته . انتشت حين أشاد بصوتها الملائكي , ثم لثم يدها بقبلةٍ ناعمة . يلحظ برودة أناملها , يناولها معطفه , يغمرها به , فيعتري جسدها رعشة دفءٍ مباغتة . يسري عطره في وريدها , ليصب روحه بكيانها , تبادره السؤال عن حياته , عمله , فيتسامران , يبتهجان , بل يتحد قلبيهما في ليلةٍ فارقة .
يشاركها الجمهور الغناء , فتستعيد ذاتها من أعماق شرودها , ليصدح صوتها بنبرة عالية , أذهلت الجميع , لترتفع الآهات , تنتزع القلوب من مكمنها , لتطوف حولها , تُمطرها ببركة الرب . تتلاعب بطبقات صوتها ببراعة , بينما يرتجف كيانها لذكرى عشقٍ , أفقدها قلبها إلى الأبد . لمساته الحانية , ضحكاته معها , إيمانه الكامل بها , طقوس عشقهما الشهي , بل حتى و لحظات غضبه منها , غيرته الجنونية التي كادت تُفقدها حياتها .
أثارته ابتسامتها لأحد معجبيها , حين أهداها لوحةً لوجهها , رسمها بنفسه , ثم أحاط خصرها بيده . انتفض آسر كالبركان , دفع الرجل بعيدًا عنها , ثم لكمه في وجهها , أعلنها هادرة أنها ملكه , لن يسمح لأحد بالاقتراب منها . نادته في هلع , حاولت الحفاظ على رباطة جأشها أمام عدسات المُصورين , لكن آسر لم يكترث لأحد . صفعها أمام الجميع , بينما تفجرت شهقات الفزع من حوله , ليستعيد صوابه بغته . أدرك خطيئته , ليسعى إلى رأب الصدع بينهما , لكن كرامتها التي تبعثرت , لم تستجمعها وقتها . قررت الانفصال عنه لوقتٍ غير معلوم .
أسابيعٌ من الشائعات تُغرقها في رثاءٍ للذات , تنتحب بصمتٍ , بينما أعماقها تصرخ  دون انقطاع . تجلدها ذاتها , كيف منحت روحها لشخصٍ يستهين بها , يتصرف معها كملكيته الخاصة , رغم أنهما لم يرتبطا رسميًا . الصور تلاحقهما في كل مكان , لقطةً حين يقبلها , يحتضنها , يُداعبها , يُمازحها فتخلّد الصور ضحكاتها الصاخبة . كل تلك اللحظات أفسدتها ثوراته الوحشية , حين يصفعها , يدفعها
أرضًا , يُهينها , يسحق قلبها بين أنامله دون رحمة , ثم تنهار وحشيته حين يلمح وجهها الذاهل , الشاحب , بل حين تباغته الدماء المُنسابة من وجنتيها .
تنتهي أغنيتها الأولى بصيحات إعجابٍ , تُزلزل الكون من حولها , تتسع ابتسامتها , تتناثر تحياتها , فتُعيد الحياة إلى قلوبٍ مسها العشق . تشير إلى العازفين كي يستعدوا لأغنيتها القادمة , ثم تغمز لعازف الكمان أن يبدأ مفاجئة الليلة . يهز العازف رأسه بالاستعداد , ثم يغزل من الموسيقى ألوانًا من الشجن , فيسود الصمت بين الجميع , تتسع العيون من الدهشة , بينما آخرون تهتز أرواحهم طربًا , تتمايل مع حركات عازف الكمان .
اتفق العازف معها على تلك المقطوعة , قبل الحفل , لكنها لم تكن تدرك أنه عزفه سيحملها إلى لحظات آسر البائدة .  توسلاته كي تبقى معه , أن تتحمل نوباته المتكررة , يبرر تصرفاته أن عشقه لها صار إدمانًا لا يقوى على العيش بدونه , أنها تعتصر شغاف قلبه , كلما تهمس بصوتها الحالم .
شجارٌ تلو الآخر , فتستحيل الحياة بينهما جحيمًا سرمديًا  , حتى صاحت في وجهه بحدة , لم يعد له مكانًا في حياتها . اندفعت مغادرة منزلها , تغالب دموع قلبها , بينما تغيم الرؤية عن بصرها , يتنامى إليها نداءه , محاولته اللحاق بها , حتى صارت وسط الشارع . تلتفت إليه في غضب , ترجوه أن يطوي صفحته معها , أن يرحم قلبها السقيم بعشقه , فلم تعد تقوى على احتمال الألم . عندئذ تقتلعها سيارةً مُسرعة , لم يكن سائقها مُنتبهًا للطريق , فيستحيل ضوء النهار إلى عتمةٍ باردة . ومضاتٌ تقطع عتمتها , صياح الممرضات و الأطباء من حولها تشق مسمعها , بين نبرة آسر الدافئة تسكن روحها إلى الأبد حين يُخبرها ” لن أسمح للموت أن يحرمكِ الحياة التي تستحقينها ” .
تصفق لعازف الكمان , ثم تعلن إهداء أغنيتها التالية إلى آسر .. الذي أعادها إلى الحياة . تنسجم مع الكلمات , بينما تتقاطر الذكريات , تستعيد وعيها بالمُستشفى , يُبلغها الطبيب تهنئته بنجاتها  . قلبها قد تمزق إثر الحادث , فقدت الكثير من الدماء , لم يكن أمامهم سوى خيارٌ واحد . انتزعوا قلب آسر , ثم زرعوه بين ضلوعها , تهدر أنها ستقاضيهم , أنهم ارتكبوا جريمةً فادحة . يعتري الطبيب الأسى بينما يخبرها أن آسر قطع شريان يده , ثم حبس نفسه بإحدى الحجرات , مستسلمًا للموت . ترك وصيته أن نمنحكِ قلبه بعد وفاته .
تشدو بأغنيتها وسط الجموع , بينما قلبها لا يرى سواه , يُشجّعها , يصفق لها , يُنادي اسمها بحماسٍ كالأطفال .. نَـــغَــم .. نَــغَــم .

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.