في زمنًا صغيرًا كُنت ، بين أحضان الزيتون و مروج الأقحوان .
أهرب من الدُنيا إلى الدنيا ، و من أبي حين يثور لأغصان شجرة التين البّرية الساكنة جوار شُرفتي ..و حين تّحِّنّ عليّ اللحظات ، تكتنفُني جدتي بين أحضانها في ظل شجرة التوت و قد مالت الشمس نحو الغروب و ارتوتْ الأرض بمياهٍ غامرةٍ فوقف أبو قردان على رؤوس قدميه يتصّيد ..
تحتضن رأسي بكفوفها الطيبة فتُرتل بأناملها علي قلقي بمَفاتح السكينة ، فأسكُن ..و أستمع حين تفيضُ بالحكي عن الأرض ..عن ثروتها الطيبة و غنيمةُ أيامُها ..تشعر كأنها تنتمي لطين الأرض هذه دون سواها ..تشعر أنها مُضرجةٌ بالحياة حين تحفُر في التُراب ، تضع نبتة ، تخلع عُشبة ، تَروي شجرة ..تُطعم طيورها الصغيرة بيدين مُرتعشتين تنثر لهم من حبات القمح ..
تُشكل الحياة بيديها فوق ملامحي ، تُنسج من خيوط جمالها خيالًا ، لا أحدٍ بها سواها ..
هل جفتْ شجرة التين جوار شُرفتي ؟!
لا أحد هُنا ، و الجميع يُعاني انقباضًا ، شيئًا يُمسك على القلوب فيخنقها ببطء ..نباح الكلاب كان عاليًا ، و ظلام الطريق رُغم وضح النهار كان واضحًا ..تعريشة الزهور خاصتي كانت يانعة ، لكنها بلا روحٍ ..بلا أملٍ آراه ..!
أكانت سجدتها بين شجرتيّ الرمان ، هي قبلة وداع للأرض !
هل كان العُشب بين يديها يقول ” لا تخافي ..إنها تُرافق ما يُشبهها من نقاء !” بينما هي غافيةٍ بلا أملٍ ..بلا حياة ، تُصلي و الأرضُ تشهد لها بالدعاء !
ما عادت كفوف الحياةِ تؤتمن ، و لا هروبي للدنيا يُقابل سوى بالصفع ، أختبئ بين جدار و آخر بلا رغبة في صراع ..و لا أدري متى انطفأت شُعلة الأمل ، و عادت لتُضئ بشيءٍ أكثر منها توجسًا ..إنني أشتعل خوفًا لا يهدأ ، أفقد كل المعاني بلا معني ..أغترب فأعود وحيدًا ، أعود ، فأصبح أشد وحدة ..لا شئ في الدنيا ينتمي لي و لا أنتمي سوي لشجرتين و تعريشةُ عُنب و حقلٌ من الذكريات اليابسة ..
هُنا !
حيثُ أودعتْ جدتي قبلتها الأخيرة للأرض ..هنا يقام مسجدًا لطالما حَلُمتْ به ، و لطالما رأت جدي يُصلي فيه بصحبة أخيه ..هل كانت روحها ساكنة بين شجرتين أم في رحابِ مسجد !
أُصلي ، فلا أشعر بشئ سوي سكينةٍ تُنازع أفكاري ..ترنو إليّ و تكتنفني و تملئني يقين .
أعود لأجلس في ظل شجرة التوت وحيدًا ، الشمسُ تدنو من الغياب ، حنينٌ لا يهدأ يختلجُني بهدوء ..أري طفلًا صغيرًا يركضُ في الطرقات ، يتعالي صوت الهمسات و الضحكات ..ينكمش الخوف أسفل الغطاء ..يومًا ما كُنت أركض بين المروجِ صغيرًا ، بلا خوفٍ ، بلا أملٍ ..مُفعمٌ بالسكينة .
هاجر أحمد تكتب “مَفاتح السكينة “

جميل أوي ي هاجر ❤️
إعجابإعجاب