تلازمني رغبة عارمة في الرحيل، الاختباء إلى الأبد، الانتهاء كرماد ورقة في عاصفة.
أصعد إلى قطار لا أعرف وجهته، أبحث عن كرسي وحيد، وأنظر إلى النهاية.
تأسرني شجيرات تمر إلى جانبي،وكأنها تودعني وداعًا خاصًا بنا.
وفي نهاية الرحلة أهبط بلا رغبة، وبلا هدف. لا أعرف إلى أين أذهب،ولا أين سأمضي الوقت.
تربت على كتفي يدي رجل لا أعرفه، غير أنه أشار لي بأن أتبعه، وبلا سبب فعلت.
قلت في نفسي ربما هو الملل، ضجري المستمر مني، وفي عقلي من يقول لي، أننا نبحث عنك.
من جزء في الذاكرة رأيت جدة كانت تقول لي أنها ترى روحها فقط أسفل شجرة توت.
وحكى لي أستاذ التاريخ عن كهنة وأنبياء أشعلوا حكمتهم من كهوفهم المنعزلة.
وقالت لي فتاة عابرة أنها ترى في بقائي وحيدًا حلًا لمأساتي.
لطالما حاولت البحث عني فيما اقرأه، في الطرقات، في قبلة عابرة لامرأة عابرة، في ليلة عامرة بمحاولات التقرب إلى الله، في اعتذارات لأخطائي القديمة، في خطوات مستمرة بطريق خاوية، في سفر بلا وجهة، في رحيل منظم.
حاولت البحث عني في الأشياء كلها، وما استطعت الوصول أبدًا.
نسيت أمر الرجل الذي يقودني بصمت، ولم انتبه إليه إلا بعدما قال لي أنه سيتركني هنا حتى الصباح.
أفقت من رحلتي لأجدني أمام خيمة وحيدة ولا أثر حولها لحياة، ولا أثر للرجل أيضًا.
على مهل دخلت إلى خيمتي، وبحذر خطوت خطوتي الأولى بداخلها.
تعثرت بحجر، فأعادني إلى جزء من الماضي.
في قرية صغيرة ولدت، في بيت وحيد حوله مروج كثيرة، وبيت ليس فيه سواي وأبي وأمي.
كانوا ينادونني فريدًا.
لا أطفال حولي يلعبون معي، فظللت أقرأ ما كان أبي يقرأه، ليس لرغبتي في القراءة، وإنما لرغبتي مشاركته الأمر.
بعد أعوام ستة رحلت أمي، لم يخبرني أبي عن وجهتها، فقط أخبرني بأنها لن تعود. وبعدها بعامين رحل هو الآخر،ولم يعد منذها.
رجعت من ترنح ذكرياتي لما انتبهت إلى مصباح صغير معلقًا في منتصف الخيمة، حاولت النوم على سرير منتصب في الجوار، غير أنني منذ مدة وأنا أعاني أرقًا شديدًا.
سافرت بذاكرتي نحو السماء، خاصة لنجمة صادقتها لسنوات طويلة، وشاركتها الأسرار القديمة كلها.
حكيت لها عن امرأة لقيتها مصادفة في دعوة لفنجان قهوة مسائي، وعن قبلة لأخرى لقيتها في قصر قديم، وعن عناق لأخرى، وعنها.
عن هذه الفتاة التي لقيتها بين أحرفي، فكتبت لها، وعنها، وتعلمت منها ما أبتغيه.
كان اسمها من قبيل المصادفة فريدة.
طلع النهار هادئًا وأتى الرجل الغريب ليقودني من جديد.
لم أسأله عن كنيته، فقط تبعت خطاه بصمت وترقب.
قال لي صديق ذات يوم أنني أحسن الإنصات والاستماع، غير أنني وللوهلة الأولى اترك انطباعًا سيئًا عني، سمعته صديقتنا فأيدت كلامه يومها.
وللحقيقة أنا لا أرغب إلا في الصمت.
وصلنا جبلًا صخريًا، فأمرني بتسلقه، واكتشاف طريقة مثلى للوصول إلى قمته، وأنه سيكون في انتظاري هناك.
طفت حول الجبل مرتين، ووقفت أمامه ساعتين أتأمل كيفية صعوده، فانتبهت إلى كهف صغير أسفل منه، فدخلته بخوف.
قال شيطاني كيف ستصعد الجبل من أعماقه أيها المختل. ولما كنت معتادًا لمخالفة ما يقوله شيطاني تيقنت أن الكهف سيوصلني.
قال مزارع بعت له حقلي وبيتي قبل رحيلي نحو المدينة أنه يحب النبات لسر فيه، إذ أنه يسكن الأرض وقتًا طويلًا، قبل أن يقفز فجأة نحو السماء.
أغمضت عيناي لأتكيف النظر في ظلام الكهف حتى رأيت طريقًا حلزونيًا يصعد لأعلى فصعدته بهدوء.
أتتني امرأة كانت في فراشي ذات مرة بصوتها الشجي، وجسدها البض، قالت لي أثناء قبلة قبل الوداع أنني أحمل بأعماقي حيوات كثيرة.
لا أدري لماذا أتتني بحديثها الآن.
صعدت الجبل ورأيت الرجل الصامت في انتظاري هناك.
تبعته بصمت حتى وقف كمن يمسك السحب بيديه.
وأشار إلى وجهتي، فإذا بالجبل الذي صعدته يستحيل درجًا لبيت صغير، وإذا بالرجل يختفي، وأعود إلى بيت تسكنين فيه، أنتِ وطائر صغير، وأبي، وأمي.
وإذا بنجمة السماء تهتف لي، أن النبات لينمو يحتاج لجذر قوي، وأنا لأجد ضالتي يجب علي البحث في جذوري جيدًا.
استيقظ من نومي فجأة فأراني وحيدًا في بيت ريفي وسط غيطان خضراء، ولا أجد أبي، ولا أمي، لا شيء سواي، فأبدأ رحلة البحث من جديد.
إبراهيم جمال يكتب محاكاةلحلم تائه
