في البارحةِ كان عقلي يخوضُ رحلةً جديدةً في أحد أسفاره المَنامِية. حُلُمّ تَتراقصُ فيه الأمواجُ وتَتشكلُ على هيئةِ أحدِ العمالقة، وحوريةٌ تَمْسِكُ بيدي وتغوصُ بي نحو عُمق الظلام المخيف في المحيط. قلتُ لها أنّني أَهاب الماءَ جدًا، ولا أَهابُ الموت، فلم تستمع إليّ وغاصت نحو مزيدٍ من الأعماق.
كانت تغوصُ بسرعة شعاعِ الضوء. سرعةٌ تخيلتُ فيها أنّ جزيئات جسدي البشري تَتفككُ وتتجمعُ من جديد على هيئتي حينما استقرتْ في القاع.
وعلى حين غفلةٍ قالت لي: حكمةُ البشرٍ أحيانًا تكون نقمةً عليهم.
حينها استيقظتُ من نومي فزعًا ومضطربًا….
تذكرتُ حديثًا دار بيني وبين مدرسِ الفلسفة قال فيه:” المعرفةُ هَشة، وخَطِرةٌ جدًا، فلا يُغريك ما فيها من ضياء، وتذكرْ أنّ لكل نور قَدْره من النيران”
مضى على حديثه قُرابة عقدٍ من الزمان، عَشْرُ سنواتٍ وأنا أخوضُ معاركَ الحياة بحذرٍ من معرفة زائفة، من ضياء واهٍ، ومن وصول لوجهة خاطئة.
حاولتُ النوم كثيرًا غير أنّني كلما أغمضُ عينيّ أرى قبسَ نورٍ يلمعُ في أعماقِ المحيط، وحوريةً تأخذني إليه، وعملاقًا بحريًا يمنعني منه، ودماءً تنزفها يدي الضعيفة.
فقضيتُ البقية من الليل أرتلُ بعض الأذكار وأبياتًا من الشعر.
في الصباحِ كان النهارُ خاضعًا لسُلطة الشمس وسِهام جنودها، وضوضاءٍ لا تنتهي، وبشر كَثُرتْ في وجوههم نظراتُ الأسى والمشقة.
تَرجّلتُ نحو عملي، وبعد ساعة شعرت بملل معتاد فطالعت كتابًا كنت أتصفحه البارحة.
وبعد سفري في طريق أحرفه قرابة ساعتين شرد عقلي لقصة قابيل وأخيه، وقال شيطاني الشارد:” ماذا لو أنّ هابيلَ الطيبَ قد قرر الانتقام من بَني أخيه فاختار أن يُحوّلَ جسده إلى نفطٍ لا إلى ورد، وعظامه لتراب بارود لا لِطَمي؟”
استعذتُ من شيطاني وعدتُ إلى عملي وأنا أشعرُ باضطراب ما، فأنا منذ أتيتُ القاهرة فارًا من بلدتي الصغيرة وأنا أُعاني اضطرابًا حقيقيًا في أفكاري، وأشطن بعقلي كل حين بغير حولٍ مني ولا قوة… كأنني مذ أتيت إلى هنا أصبحتُ مسلوب الإرادة ومضطرب.
بعد دوامٍ ممل ورتيب هاتفتُها، كنا قد التقينا منذ شهر أو أقل بقليل.. فتاةٌ خمريةُ الوجه جميلة، وبخدها شامةٌ صغيرةٌ تضفي على وجهها مزيدًا من الحسن والجمال… واتفقنا أن نتناول الغداء معًا.
قالت لي لَمّا حكيت لها هذيان عقلي واضطرابي أنّني بحاجة إلى البشر، الاختلاط معهم، الاندماج في حكاياتهم السخيفة والسطحية، فمن أقاصيصهم المختلفة تنبع حكمة الحكماء…. قلت لها أنني لا أنْشُدُ سوى البساطة، لا أريدُ المعرفة، ولا أطلبُ الحكمة، ولا أرغبُ في الحياة إلا ما هو بسيط ولطيف.
للتو لاحظت أنني لا أعرفُ عنها سوى اسمها، فنحن لَمّا التقينا كنا نتناقش عن كتابِ مسخ الكائنات لأوفيد، وعن شاعرية “أوفيد” الخاصة، بدأ الحديثُ بيننا لَمّا لَقيتُها مستغرقةً في كتابها على الطاولة التي أمامي، ومن باب المصادفات الكونية كنت أنا أقرأُ الكتابَ ذاته على طاولتي.
تناقشنا حول الشعر كثيرًا، وعرفتُ اسمها لما تصافحت يَدينا قبل الرحيل، قالت لي أنّ اسمَها لؤلؤة، وتركتْ لي رقمَ هاتفها ومضت، كان اللقاءُ قبل شهر تقريبًا، تلاقينا بعدها أربعة مرات تبادلنا فيها الكتب وبعض الأحاديث الجانبية، وحديثُ اليوم كان هو الحديثُ الأول حول شخصيتي المُضطرِبة.
قبلها كنتُ أخشى الحديثَ عنّي، فأنا فتى لا أنتمي لمدنية المدينة، ولا لطين القرية، أنا مسخ بين الاثنتين، وهذه النشأة المضطربة تنعكس في عينيّ، فأخاف من الاندماج مع حياة المدينة الصاخبة، لأنني لا أشبهها، وأخاف العودة إلى قريتي لغربتي فيها.
رحلتْ هذه المرة بعدما ألقتْ نصائحها إليّ عن ضرورةِ الانغماس في المجتمع، فقد قالت لي أنّني في حاجةٍ لأن أنتمي إلى شيءٍ وأمدُّ له جذوري لأنمو وأُزْهِر.
تذكرتُ حين رحيلها حديث أستاذ الفلسفة إلي حين قال، ينزفُ البشرُ كثيرًا من الدماء لإشعال شموعِ الحكمة وضيائِها، لا لشيء إلا لأنهم يحبون أن تنتمي النتائجُ إليهم، وينتمون إليها.
قلتُ في سِري لماذا إذن يرغب الفيلسوف الحق في انعزال الحياة وترك صخبها نحو كهف التجرد والتأمل؟!
أتاني الردُ من حوريةٍ لقيتُها لَمّا وضعتُ رأسي لأنام. إذ قالت:” يدركُ الفيلسوف الحق أن عُمْقَ التجارب هو ما يُشعِلُ ضياء المعرفة، وأنه لا معرفة بلا دماء، والانتماء إلى البشر هو قُربان الفيلسوف ومُحرِّكه، وعُزلَتُه هي مصفاةُ تجاربه وزيت مصباحه.
صحوتُ مستاءً لتشتت أفكاري وضياعِ أحْرُفي فأتت قصتي تائهةً كما أنغمس أنا في التيه والاضطراب.
إبراهيم جمال يكتب تيه
