من مجموعه ( أيتها الطبيبة )
لست بخائفة
مشيرة يوسف
٤)
_ لعلك تندهشين أيتها الطبيبة حين أخبرك الآن أنني لست بخائفة!
أنا من أفقدتها الأقدار حنو أمانها منذ زمن
وأرقدتها منازل الكهاف خوفا بكل عاصفة
أجدني الآن لست بخائفة!!
أشعر بسكون تام يعتريني،ذلك السكون الذي يجعلني حتى أتثاقل مجرد الشعور العابر بأية دهشة وقد وجدتني ولأول مرة بحياتي لست بخائفة!!
إنه لأمر مدهش ،بل جلل حين أجدني لا أخاف !! وبرغم ذلك لا اشعره ! ولا استشعره !!!
وكأن الأمر برمته لا يخصني
ببعض مشاعر خاطفة!!
أنا من اعتدت الخوف من الأشياء ،من الأشخاص ، من الخيال والأحلام بل من النظرات ،من الخطأ، وجلد الذات وملاحقة اللوم لي حتى وإن كان لوما بالنظرات !
كان الشعور بالذنب ذاته كفيلا بقيدي مكبلة الأيدي بالصبر دوما ثم بالتنازلات الكثيرة!!
فقد كنت أخاف حتى من اتيان حقي ! وكأنه ليس لي!!
مادام غيري قد أراده أو حتى طمع فيه !!
كنت أخاف حرمان أحدهم مما لا يستحقه فأشفق عليه !! فأجدني جديرة بتركه طوعا مع كامل استحقاقي وتوقي إليه !!
كان شعورا ساذجا بالمثالية الخرقاء !! لم يمنحني سوى الفقد ..
وكم عانيت من ذلك الفقد ..
فقد تنازلت طوعا عن كل حياتي التي لم أعشها أبدا وجلست بأبهى سنوات العمر مقعدة بإحدى مقاعد المشاهدة لفصول حياتي الشاردة
بكل سنواتي !!
لكنني لم أتخلف يوما ولا تقاعست أبدا عن إمامة مسئولياتي ..
تلك التي كانت تغمرني إجهادا بإسهاب و أحمالا بعذاب ..
تلك فقط التي كانت تلتصق بي وألتزم بها وأحملها وأنازل من أجلها
كل تلويح لحدسي بالتريث
كل نداءات عقلي بالتيقظ
كل صراخات ألمي بالتوقف
عن تقصيري بذاتي ..
فلم يكن هناك مهرب أو فرار يمنحني مذهب
يجعلني أقبل وأغفر وأذهب
وأتوقف عن جلد ذاتي ..
وقد كنت أخاف و أذعر أن أتسبب بإيلام أحد أو فقده ، ففقدت بعضهم بعذاب ..و تسبب الجميع بإيلامي ..
وجميعهم كانوا أحبائي !!
ولشدة خوفي عليهم عافت نفسي محاسبتهم ،وأطلقت العنان لشطاطهم فثبت بعضهم بالولاء لي ولم يفسدهم تدليلي وجمح بعضهم الآخر بخيانتي وري ساحات العمر بخذلاني !
كنت أخاف كثيرا أيتها الطبيبة ، كنت أفر من كل خوف بحرص ثم أجدني أقع بكل ما أخافه حاضرا !!
لازمني الخوف و أحاط بي من كل صوب منذ أن كان خيالا إلى أن أصبح واقعا !
حتى حين تجاسرت وظننت أن بإمكاني التغلب عليه عاجلني بثوراته ٱمرا ََ!!!
“عودي إلى نوبات هلعك بي “
فاستمسكت بمناجاة ربي تضرعا وأحسبه قبل مناجاتي ..
كنت كثيرة التنقل بين محطات الأمل وقاعات اليٱس ، أتناوب بين نفسي مشقات الذهاب والعودة شروقا وغروبا
بذلك الفرار أفولا وذلك الحنين حبورا..
كثيرا ما تخيلت ذلك المشهد الأخير ، حين يخبرني الطبيب بالتأهب للرحيل ..
كنت أجدني أبكي ببعض أوقات التخيل ، ثم أصبحت أجدني أكثر قبولا وترحيبا أحيانا كثير ..
ما يدهشني حقا و إن كنت لا أجد لشعور الدهشة حقا ، أنني لا أجد بذاتي الآن أي من هذا !!!
لا أجد خوفا ،أو ألما ،أو عمرا يستحق العويل !
أجد شعور السكون يغمرني ، وكأنني في سبات طويل !!
أجد نفسي وقد تركت لجام عربتي المتهالكة ترفقا ورثيت لمعانتها زمنا طويل
أما ٱن لهلاكها من راحة،أن تقاد لمأواها أخيرا وأني لأحسن الظن بها ولمٱواها بحسن المصير !
أما آن لتلك الأيادي المجهدة وتلك الطاقات المؤدة أن تنعم بختام جميل !
لا أعلم أيتها الطبيبة ..
لكني موقنه أخيرا من اقتراب غدي الأخير ..
ربما هو آخر دقات الألم بترجل أخير عن ركابه
أو هو آخر دقات نبض بترجل أخير عن رحابه
هو بكل حال غدي الأخير عما أنا عليه ،وعما وصلت إليه
وذهبت فيه كل سنواتي ..
فاذكريني أيتها الطبيبة ..
كلما ٱتتك مثلي ، من غريبات دنيانا العجيبة
أخبريهم قصتي ، قصي عليهم معاناتي ..
لكن لا تنسي أبدا أن تخبريهم أنني
كنت الملامة بفقد حياتي ..
أخبريهم أن يرأفوا بذواتهم وأن يحنوا عليها
وحين تلتقي خطوات المعاكسين لهم بخطواتهم
فاخبريهم ألا يقاربوها أو يدانوها
أخبريهم ٱلا يهادونها أو يجادلوها
بل يفروا ويفزعوا لنجدة تلقاهم وتغشي أعينهم وكأنهم لم يروها ..
أخبريهم أنهم مهما منحوهم لن ينالوا برهم ..
لن يكرموهم ! بل لن يروهم !
فالضرير لا يرى مُرشده لكنه لا يطيق فراقه !
والأصم لا يمكنه الاستماع أو الإنصات
هو فقط ينصت لحاجاته
هي علاقات معاكسة
ذات خطوات متعاكسة
وستبقى بائسة
مهما حرروها ..
اخبريهم أن لقاءاتهم مؤلمة
ووصالهم مَظلمة
وفراقهم ملحمة
اخبريهم أن بعض أعزاء العمر قد يكونوا قُتاله ، وأن الأنين بصحبتهم قاس جدا لا يشفيه وصال ..
أخبريهم أن الوفاء لهم نزف لا ينتهي جريانه
لكنه وفاء ضل مصبه وصمم على سريانه
أخبريهم كل ما أخبرتك واجعليني كتابا مسهبا ، صدقة جارية بذاكرتك ..
لا حقيهم
لا تتركيهم أبدا مثلما تركتك
اخبريهم أني بالأخير تعلمت درسي
وصادقت نفسي
وسامحت يٱسي
ونسجت من ثوب الرضا حُلتي
ووضعته تاجا فوق رٱسي
وهكذا أصبحت أخيرا
لست بخائفة
أيتها الطبيبة.
شكرا جزيلا للجريده
إعجابإعجاب
شكرا جزيلا للجريده
إعجابإعجاب