يارة السيد الطنطاوي تكتب ذكرى طويلة المدى


حين عملتُ بالتدريس في الروضةِ لم أكُن معلمة، كنتُ ذات الفراشةِ بالضفيرتين والفُستان الوردي منذ ثمانية عشر عام.
أتذَّكر أنني في فترةِ التدريب أول ماخطتْ قدماي ناصية الشارع الذي تقع فيه روضتي؛ شعرت بإنقباضةِ صدرٍ وتفَّحصتُ ملابسي أينَ بنطالي الجينز القصير وربطات شعري، وحقيبة السيد أرنوب ورفيقي أخي؟ كيف تبدلت الاحوال وكيف انقلب الزمن ثمانية عشرة عاماً..
تابعتُ الخُطى نحو المراد، واقتربتُ من المكان حتى أنني التقطت صوراً للمبنى من الخارج، كأنني أوثق شيئاً كأنني، أبرهن لنفسي أنها حقيقةً وأنني ماثلة أمامها دون تغيير يذكر!
نفس المكان بنفس ألوان الجدران، والشجيرات لم يجور عليها الزمن والضباب في السابعة الآن نفسه منذ المدة، الفارق هو العين، كانت عينا طفلةٍ واليوم عينا فتاةٍ يانعة.
أما الداخل فهو أصدق من خارجها، وأكثر حياة وأعصى على الذكرى من أن يُنسى.
مديرة الروضة السيدة “باء” بشحمها ولحمها لم تُغِّير فيها تجاعيدها أكثر مما يُغيرُ الأمس باليومِ.
لم استطع أن أمنع قدماي من الخوض، وتصديق قلبي، أنَّ حتى الحديقةِ لم يحدُث فيها ثمة تغيير وقد كان.
ربما لن يصدق أحداً أن ذاكرة طفلة عمرها أربعة أعوامٍ لم يشوبها غشاوة، وكل مايقع عليه ناظرها اليوم تتوهمهُ ذاته منذ ثمانية عشرة عام، لكن لايهم هي لاتسعى لأن تُصدَّق يكفيها ماأحسَّت هنا ومازالت تشعر به كأن ماكان من غيبتها غيرَ ساعة.
لنعُد للأرجوحة الدائرية التي كنت التصق بأخي فيها خشية أن أسقُط أو أُجرَح، لكنني لم أسقُط قط والفضل ليدِ أخيتحمل ذات اللونين الأحمر الشمسي والأصفر، أُقسم أن لا شئ زاد عليها غير بعض صدأ الحديد بفعل ندى الطَّل .
الحُجرات ذاتها ربما بعض المقاعد أيضاً، واللوحات التعليمية الأمر أشبه بأن تكتشف تراثاً،أو كَنزاً فُقد منذ عشرات السنين وبعد عمرٍ من البحث تجدُه!
لم يتبق لي من طفولتي غير أخي والروضة.
صديقاتي وأحلام الصبا وضحكاتي جميعهم دون تجني مضوا إلى فناء، حمداً لله أن روضتي لم تفنى هي الأخرى.
أنا امرأةٍ معجونة بالأُلفة، أألفُ كل شئ مرَّ بطريقي،ولو زحاماً حياً كان أو لا؛ لكنَّ أُلفتي وارتباطي بالأماكن أكثَّر شدة. لم أنسَ مدرستي الثانوية أيضاً ولم أنس أول مقهى شربتُ فيه قهوتي بالسيدة زينب لكن الأمر في الروضة اختلفَ قليلاً.
كانت ترتبط بأولى سنوات عُمري، أهداها وأكثرها براءة، شهدتْ حوائط حُجرة التدريس على أحلامي. أذكُر أنني في الحجرة الأولى من الباب جهة اليمين كُنت كتبتُ جملة” ياره دكتره” وليس طبيبة أو دكتورة، لأنها كانت أولى محاولاتي في الهجاءِ وأول مااستطعتُ دوَّنت حُلمي؛ حلمي القديم في أن أكُن طبيبة.
ارتبطت بسعادتي الكبيرة ولحظاتٍ كثيرة دافئة، كأوقات مجيئن أمي لتأخذني وأخي وفي إحدى يديها كيساً أسوداً بداخله كيساً آخر أبيضاً، يحوي قطعة كبيرة من حلوة الهريسة أتسابَق وأخي في حمل الكيس حتى المنزل وأفاجئهم بأخذ قطعةٍ دون أن ينتبهوا قبل الوصول.
بعدما تجاوزت مرحلة الترحابِ بدأتُ يومي الأول، والثاني والثالث وفي الرابع رأيتُ ياره، ياره حقيقةً!
فتاة قمحية البشرة وعيناها سمراوتان واسعتان تشبهان الليل وفيهما لمعة كأنها القمر، ساكنة مكانها لاتصدر أي حراك، مثلي تماماً كنت أخشى الإختلاط وأنطوي في زاوية لاتُرى.
اسمُها فريدٌ مثل اسمي في مثل عمرها، كانت تُدعى كارما، كارما التي شبهتني أكثر مني.
أما في حجرة التدريس التي انضبطتُ فيها بعد التدريب.
صادقتُ أطفالاً كُثر، جعلونني أُبصر بقلبي مالم يمكن لعيني أن تُبصرَّهُ.
علمني أصغَّرَهُم في بضعة أيامِ ن الهرج في الروضة لايعني قلة فَهم وكثرة شغب، أو عبث مُطلق كما أخبرونا قديماً؛ إنما إقبالٍ على الدنيا ومحاولة اكتشاف منها مايمكن اكتشافُه.
علموني جميعهم أكثر مما فَعلت سنواتي الإثنان وعشرين _ ومالم أعلمهم أنا. دثروني بإبتساماتهم وخلقوا لي أجنحة حينما قبلوني بالحلوةِ أو مُجردَّةً منها. واستني مرْيَمُ حين استنكرتْ صمتي الدائم خارج محيط التدريس، وأخرج مني آدم ضحكاتٍ دون إنذارٍ، كلما هممتُ بعقابِه همَّ هو بإحتضاني. لم أكُن مدينة لشئ بالإمتنان قدر وجودهم، على الأرض أطفالٍ وضحكاتهم، إذا هناك مواساة غير مدفوعة الأجر وأَحضان كثيفة للجميع، فقط هكذا لأن مفطورين على التسامح والغُفران، واللين فِيهم مغروسٍ اما تنزعه الدُنيا منهم أو توثِّقه وتزيده فيهم تأصيلاً، سأبذل قصارى جهدي مادُمت في حجرتهم، ليظلوا هكذا حمامات سلام بين أنفسهم وبين معارك الدنيا وعثراتِها، كلما أوشكوا أن يُعاقبوا غلبهم اللين فترقصوا وأجبرونا أن نترأف. ربما كان عليَّ أن أكُن هنا البارحة واليومَ، التائهين على شاكلتي لايسعهم غير التشبث بالأماكن؛ لأنها دليلاً أنهم كانوا هنا، ولعلها يوماً تُرشدهُم ولو بواسطة ذكرى، وبفضل الروضة امتلكتُ أنا واحدةذكرى_ طويلة المدى.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.